أكثرهم قرآنًا أكثرهم فقهًا؛ فإن قراءتهم كانت علمًا وعملًا بخلاف من بعدهم.
وأجيب عن هذا بوجهين:
أحدهما: أن هذا خطاب عام للأمة كلهم، فلا يختص بالصحابة.
والثاني: أنه فرق بين الأقرأ والأعلم بالسنة، وقدم الأقرأ عليه.
وأجاب الإمام أحمد عن تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على أبي بن كعب وغيره، بأنه أراد بذلك التنبيه على خلافته، فلهذا المعنى قدمه في الصلاة على الناس كلهم.
وقد منع بعضهم أن يكون أبي بن كعب أقرأ من أبي بكر، لأن المراد بالأقرأ في الإمامة الأكثر قرآنًا، وقال: كان أبو بكر يقرأ القرآن كله، فلا مزية لأبي بن كعب عليه في ذلك، وامتاز أبو بكر بالعلم والفضل ... ".
قلت: وقد ذهب جماعة إلى أن أبا بكر لما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإمامة كان حينئذ أقرأ الناس، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (٢/ ٢٩٩): "قالوا: وحديث أبي مسعود معارض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبا بكر يصلي بالناس"؛ لأنه كان فيهم من كان أقرأ منه للقرآن، قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"يؤم القوم أقرؤهم" في أول الإسلام حين كان حفاظ القرآن قليلًا وقتَ قُدِّم عمرو بن سلمة، وهو صبي، للصلاة في مسجد عشيرته وفيه الشيوخ، وكان تنكشف عورته عند السجود، فدل أن إمامته بهم في مثل هذه الحال كانت لعدم من يقرأ من قومه، ولهذا المعنى كان يؤم سالم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء، حين أقبلوا من مكة مهاجرين، لعدم الحُفَّاظ حينئذ، فأما وقت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" فقد كان تقرر الإسلام وكثر حفاظ القرآن وتفقهوا فيه، فلم يكن الصديق - رضي الله عنه - على جلالته وثاقب فهمه، وتقدمه في كل خير، يتأخر عن مساواة القُرَّاء، بل فضلهم بعلمه، وتقدمهم في أمره، ألا ترى قول أبي سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا، وقال الطبري: لما استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الصديق - رضي الله عنه - على الصلاة بعد إعلامه لأمته أن أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله؛ صح أنه يَوْمَ قَدَّمَهُ للصلاة كان أقرأ أمته لكتاب الله وأعلمهم وأفضلهم؛ لأنهم كانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن حتى يتعلموا معانيه وما يراد به، كما قال ابن مسعود: كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يتعلم معانيهن والعمل بهن، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستحق أن يتقدمه أحد في الصلاة، وجعل ما كان إليه منها بمحضر جميع الصحابة لأبي بكر - رضي الله عنه - كان جميع أمور الإسلام تبعًا للصلاة، ولهذا قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، والصلاة لا يقوم بها إلا الدعاة ومن إليه السياسة وعقد الخلافة؛ كصلاة الجُمَع والأعياد التي لا يصلح القيام بها إلا لمن إليه القيام بأمر الأمة وسياسة الرعية، وصح أنه أفضل الأمة بعده لقيام الحجة بأن أولى البرية بعقد الخلافة أفضلهم وأقومهم بالحق وأعدلهم وأوفرهم أمانة وأحسنهم على محجة الحق استقامة، وكذلك كان الصديق - رضي الله عنه -".
قلت: لكن إسلام قوم عمرو بن سلمة إنما كان بعد فتح مكة، كما صح ذلك في