وأما الكلام على دعوى النسخ، على قول من قال: إن أبا بكر كان مأمومًا:
فأما على قول من قال: إنه كان إمامًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتم به، كما تقدم عن مالك وغيره، فلا دلالة في الحديث حينئذ على أن الائتمام بالقاعد بالكلية.
وأما من قال: إن الإمام كان هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قاله الشافعي، والإمام أحمد، والبخاري، والأكثرون، فالجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث المتقدمة التي فيها الأمر بالجلوس في الصلاة من وجهين:
أحدهما -وهو الذي ذكره الإمام أحمد-: أن المؤتمين بأبي بكر ائتموا بإمام ابتدأ بهم الصلاة وهو قائم، ثم لما انتقلت منه الإمامة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقلوا إلى الائتمام بقاعد، فأتموا خلفه قيامًا لابتدائهم الصلاة خلف إمام قائم.
فعلى هذا التقرير نقول: إن ابتدأ بهم الإمام الصلاة جالسًا صلوا وراءه جلوسًا، وإن ابتدأ بهم قائمًا ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قيامًا، هكذا قرره الإمام أحمد وأصحابه.
ومنهم من قال: إنه تصح هنا صلاة المأمومين خلفه قيامًا إذا جلس في أثناء صلاته لعلة، وسواء كان إمام حي أو لم يكن، بخلاف ابتداء صلاة القائم خلف الجالس، فإنها لا تصح عند الإمام أحمد؛ إلا إذا كان إمام الحي، وجلس لمرض يرجى برؤه خاصة، فإنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.
وممن قال ذلك من أصحابنا: أبو الفتح الحلواني.
والثاني: أن تحمل أحاديث الأمر بالقعود على الاستحباب، وحديث صلاته في مرضه من غير أمر لهم بالجلوس على جواز أن يأتموا بالقاعد قيامًا، فيكون المأمومون مخيرين بين الأمرين، وإن كان الجلوس أفضل.
وهذا يتخرج على قول من قال: إنهم إذا ائتموا بالجالس قيامًا صحت صلاتهم، وقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين.
وظهر لي وجه ثالث في الجمع بين هذه الأحاديث، وهو متجه على قول الإمام أحمد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا لأبي بكر، وكان أبو بكر إمامًا للناس، فكانت تلك الصلاة بإمامين.
وحينئذ فيقال: لما اجتمع في هذه الصلاة إمامان، أحدهما جالس والآخر قائم صلى المأمومون خلفهما قيامًا اتباعًا لإمامهم القائم؛ فإن الأصل القيام، وقد اجتمع موجب للقيام عليهم، وموجب للقعود أو مبيح له، فغلب جانب القيام؛ لأنه الأصل، كما إذا اجتمع في حِلِّ الصيد أو الأكل مبيح وحاظر، فإنه يغلب الحظر.
وأما أبو بكر فإنه إنما صلى قائمًا؛ لأنه وإن ائتم بقاعد إلا أنه أمَّ قادرين على القيام، وهو قادر عليه، فاجتمع في حقه أيضًا سببان: موجب للقيام، ومسقط له، فغلب إيجاب القيام، والله سبحانه وتعالى أعلم".
وانظر أيضًا: شرح صحيح البخاري لابن بطال (٢/ ٣١٣)، شرح السنة للبغوي