العلماء: الأوزاعي، وحماد بن زيد، وأحمد، وإسحاق، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو إسحاق الجوزجاني، وابن المنذر، وابن خزيمة، وابن حبان، ونقله إجماعًا قديمًا من السلف، حتى قال في صحيحه: أول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدًا إذا صلى إمامه جالسًا: المغيرة بن مقسم، وعنه أخذ أبو حنيفة.
وأما دعوى النسخ في هذا: فقد بينا أنه لا يجوز دعوى بطلان الحكم مع إمكان العمل به ولو بوجه، وسنبين وجه العمل به، والجمع بين ما ادُّعي عليه التعارض إن شاء الله تعالى.
ويدل على أن الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد غير منسوخ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علله بعلل لم تنسخ، ولم تبطل منذ شرعت.
ومنها: أنه علله بأن الإمام إنما جعل إمامًا ليؤتم به ويُقتدى به في أفعاله، وقال: "إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون"، وما قبل الصلاة جلوسًا لم ينسخ منه شيء، فكذلك القعود؛ لأن الجميع مرتَّب على أن الإمام يؤتم به ويقتدى به.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنما الإمام جنة، فإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإذا وافق قولُ أهلِ الأرض قولَ أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه".
ومعنى كونه جنة: أنه يُتَّقى به ويستتر، ولهذا إذا سلمت سترته لم يضر ما مر بين يديه، كما سبق تقريره.
ومنها: أنه جعل القعود خلفه من طاعة الأمراء، وطاعة الأمراء من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطاعته من طاعة الله، ومعلوم: أنه لم ينسخ من هذه شيء، بل كلها باقية محكمة إلى يوم القيامة،. . . [ثم ساق حديث ابن عمر المتقدم، ثم قال:] وهذا يصلح أن يكون متمسكًا للإمام أحمد في تخصيصه ذلك بإمام الحي؛ فإن أئمة الحي إنما ينصبهم الأئمة غالبًا، وخصه -في رواية عنه- بالإمام الأعظم الذي تجب طاعته.
ومنها: أنه جعل القيام خلف الإمام الجالس من جنس فعل فارس والروم بعظمائها، حيث يقومون وملوكُهم جلوس، وشريعتنا جاءت بخلاف ذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار".
وقال عمر بن عبد العزيز للناس: أيها الناس، إن تقوموا نَقُم، وإن تجلسوا نجلس، فإنما يقوم الناس لرب العالمين.
وهذا حكم مستقر في الشريعة، لم يُنسَخ ولم يُبدَّل.
وقد دل على ما ذكرناه:. . . [ثم ساق حديث أبي الزبير عن جابر، عند مسلم، وتقدم برقم (٦٠٦)، وحديث أبي سفيان عن جابر، المتقدم برقم (٦٠٢)، ثم قال:]