قلت: جاء في رواية حجاج عن حماد بن سلمة: أنه دخل في الصف وهو راكع.
وقال ابن رجب في الفتح (٥/ ٢١): "هل يختص جواز الركوع دون الصف بمن أدرك الركوع في الصف، أو لا يختص بذلك؟
ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور أنه يختص بمن أدرك الركوع في الصف؛ لأنه إنما أجاز الركوع خلفه لمن ظن أنه يدركه، فإنه إذا زالت فذوذيته في حال الركوع، فلم يُصلِّ ركعة فذًّا، والمنهي عنه أن يصلي فذًّا ركعةً فأكثر، وأما إذا زالت فذوذيته قبل أن يرفع من الركوع فقد أدرك الركعة في الصف، فلا يكون بذلك فذًّا؛ ولهذا لو قام خلف الإمام اثنان فأحرم أحدهما قبل إحرام الآخر، لم يكن في تلك الحالة فذًّا بالاتفاق".
• وبعد سرد هذه الأقوال؛ أقول -وبالله التوفيق-:
في حديث وابصة بن معبد أسقط الرجل المصافَّة بالكلية؛ فأمر بالإعادة، وفي حديث أبي بكرة أدرك الصف وهم ركوع، قبل أن يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه؛ فلم تسقط المصافة التي تُدرك بها الركعة، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، فدل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تعد" على أنه ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، مع كونه فيه نوع إجمال فيما نُهي عن العود إليه؛ لكن المنصوص عليه فيما صح من الحديث [كما جاء في حديث حماد بن سلمة]: هو الركوع دون الصف، ثم المشي إلى الصف، وما عدا ذلك فلا يصح من طرق الحديث، ومن ثم فلا ينبغي حمل النهي على مجرد الإسراع إلى الصف المنهي عنه بدليل آخر مستقل، فإذا انضاف إلى ذلك: ما صح عن الصحابة -كزيد بن ثابت وابن مسعود- في ركوعهم دون الصف، ثم مشيهم حتى دخلوا في الصف، فإنه يقوي القول بأن النهي يحمل على الكراهة لا على التحريم، ولو صح أثر أبي بكرة وفعله في ذلك لكان حجة قوية، إذ الصحابي الذي وقعت له الواقعة هو أعلم الناس بما دل عليه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العود، والله أعلم.
ولو كان النهي هنا يقتضي الفساد لأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، فإن قيل: المنهي عنه لا يتعلق بماهية الصلاة وأركانها، بل لأمر خارج عنها، فيقال: لم يكن خارجًا عنها، إذ المنهي عنه متعلق بالمصافة، كما دل عليه ما صح من سياق الحديث [عند أبي داود، من حديث حماد بن سلمة]، والمصافة لما أسقطت بالكامل أبطلت الصلاة في حديث وابصة بن معبد، فقد أمر المنفرد خلف الصف بإعادة الصلاة، ونفى حقيقة الصلاة عن صلاته التي صلاها، كما في حديث علي بن شيبان، ولفظه:"استقبل صلاتك؛ لا صلاة لرجل فرد خلف الصف"، فدل ذلك على أن عدم المصافة بالكلية مبطل للصلاة إلا لضرورة، كما بيناه في موضعه، والله أعلم، وهو الموفق للصواب.
• وفي النهاية: يمكن تلخيص حكم المسألة، بما ذكره ابن عبد البر من مذهب الشافعي؛ أنه يستحب ألا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف [لحديث أبي بكرة، وقول أبي هريرة]؛ فإن فعل فلا شيء عليه [لفعل زيد بن ثابت، وابن مسعود]، وأن نهيه - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تعد": نهي إرشاد، لا نهي تحريم، ولو كان للتحريم لأمره بالإعادة، كما قال البغوي، والله أعلم.