للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم قال في بيان قول الجمهور: "وأما جمهور أهل العلم الذين لم يروا قطع الصلاة وبطلانها بمرور شيء بين يدي المصلي، فاختلفت مسالكهم في هذه الأحاديث المروية في قطع الصلاة:

فمنهم: من تكلم فيها من جهة أسانيدها، وهذه تشبه طريقة البخاري؛ فإنه لم يخرج منها شيئًا، وليس شيء منها على شرطه كما سبق بيانه.

ومنهم: من ادعى نسخها بحديث مرور الحمار وهو في حجة الوداع، وهي في آخر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ............

ومنهم من قال: حديث أبي ذر ونحوه قد عارضه ما هو أصح منه إسنادًا، كحديث ابن عباس وعائشة، وقد أعضدهما أحاديث آخر تشهد لهما، ...

إلى أن قال: وسلك آخرون مسلكًا آخر، وهو: أن الأحاديث إذا تعارضت نظر إلى ما عمل به الصحابة فيرجح، وقد عمل الصحابة بأن الصلاة لا يقطعها شيء، وقد روي ذلك عن الخلفاء الراشدين الأربعة وغيرهم.

وقد سلك هذا أبو داود في سننه، وهو من أجل أصحاب الإمام أحمد.

وسلك آخرون مسلكًا آخر، وهو: تأويل القطع المذكور في هذه الأحاديث، وأنه ليس المراد به إبطال الصلاة وإلزام إعادتها، وإنما المراد به القطع عن إكمالها والخشوع فيها بالاشتغال بها، والالتفات إليها، وهذا هو الذي قاله الشافعي في رواية حرملة، ورجح هذا الخطابي والبيهقي وغيرهما من العلماء.

وقد تُعُرِّض عليه بأن المصلي قد يكون أعمى، وقد يكون ذلك ليلًا بحيث لا يشعر به المار ولا من مر عليه، والحديث يعم هذه الأحوال كلها، وأيضًا؛ فقد يكون غير هذه الثلاثة أكثر إشغالًا للمصلي، كالفيل والزرافة والوحوش والخيل المسومة، ولا يقطع الصلاة مرور شيء من ذلك.

وأقرب من هذا التأويل: أن يقال: لما كان المصلي مشتغلًا بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال فيقطع بذلك مواد الأنس والقرب؛ فإن الشيطان رجيم مطرود مبعد عن الحضرة الإلهية، فإذا تخلل في محل القرب الخاص للمصلي أوجب تخلله بعدًا وقطعًا لمواد الرحمة والقرب والأنس.

فلهذا المعنى -والله أعلم- خصت هذه الثلاث بالاحتراز منها، وهي: المرأة؛ فإن النساء حبائل الشيطان، وإذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان، وإنما توصل الشيطان إلى إبعاد آدم من دار القرب بالنساء، والكلب الأسود: شيطان، كما نص عليه الحديث، وكذلك الحمار؛ ولهذا يستعاذ بالله عند سماع صوته بالليل؛ لأنه يرى الشيطان؛ فلهذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بالدنو من السترة خشية أن يقطع الشيطان عليه صلاته، وليس ذلك موجبًا لإبطال الصلاة وإعادتها -والله أعلم-، وإنما هو منقص لها، كما نص عليه الصحابة،

<<  <  ج: ص:  >  >>