للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج لم تكن دون تلك، بل نحن نعلم أنها أقوى منها، فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها، والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر حتى ينتهي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى أن عمل غير أهل المدينة أو إجماعهم حجة، وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم، هل هو حجة أم لا؟ نزاعًا لا يقصر عن عمل غيرهم وإجماع غيرهم إن لم يزد عليه.

فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي وابن جريج وأمثالهما بعمل أهل المدينة، لو لم يكن المنقول نقلًا صحيحًا صريحًا عن أنس يخالف ذلك، فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت، وإنما صححه مثل الحاكم وأمثاله".

ثم ذكر حديث معاوية، وأطال أيضًا في رده سندًا ومتنًا من ستة أوجه تقدم ذكرها في موضعه، إلى أن قال: "فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغيَّر عن وجهه، وإن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح، فحصلت الآفة من انقطاع إسناده.

وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة لكان شاذًا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس، وعن أهل المدينة وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذًا ولا معللًا، وهذا شاذ معلل؛ إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته".

ثم ختم بحثه الماتع في هذه المسألة بقوله: "ومع هذا فالصواب: أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة، فيشرع للإمام أحيانًا لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانًا، ويسوغ أيضًا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدَّمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان، وأنكر عليه، فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر، ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول، مراعاة ائتلاف المأمومين، أو لتعريفهم السُّنَّة، وأمثال ذلك، والله أعلم" [مجموع الفتاوى (٢٢/ ٤١٠ - ٤٣٧)].

وقال ابن رجب في الفتح (٤/ ٣٦٦): "فمن اتقى وأنصف علم أن حديث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ التي لم يرض بتخريجها أصحاب الصحاح، ولا أهل السنن مع تساهل بعضهم فيما يخرجه، ولا أهل المسانيد المشهورة مع تساهلهم فيما يخرجونه.

<<  <  ج: ص:  >  >>