وإنما جمعت هذه الطرق الكثيرة الغريبة والمنكرة لما اعتنى بهذه المسألة من اعتنى بهما، ودخل في ذلك نوع من الهوى والتعصب، فإن أئمة الإسلام المجتمع عليهم إنما قصدوا اتباع ما ظهر لهم من الحق وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن لهم قصد في غير ذلك - رضي الله عنهم -، ثم حدث بعدهم من كان قصده أن تكون كلمة فلان وفلان هي العليا، ولم يكن ذلك قصد أولئك المتقدمين، فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ، أو من هو ضعيف لا يحتج به، أو مرسلات وصلها من لا يحتج به، مثلما وصل بعضهم مرسل الزهري في هذا، فجعله عنه، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، ووصلُه باطلٌ قطعًا.
والعجب ممن يعلِّل الأحاديث الصحيحة المخرجة في الصحيح بعلل لا تساوي شيئًا، إنما هي تعنت محض، ثم يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها.
وقد اعتنى بهذه المسألة وأفردها بالتصنيف كثير من المحدثين، منهم: محمد بن نصر وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وأبو بكر الخطيب والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم من المتأخرين.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا كل حديث احتجوا به، وبيان أنه لا حجة فيه على الجهر؛ فإنها دائرة بين أمرين: إما حديث صحيح غير صريح، أو حديث صريح غير صحيح".
وانظر كلام ابن عبد الهادي في هذا المعنى باستفاضة في نصب الراية (١/ ٣٥٥) [ونقله عنه: العيني في نخب الأفكار في شرح معاني الآثار (٣/ ٥٦٥)]، وكأن ابن رجب اختصر منه المراد، والله أعلم.
وقال العيني في نخب الأفكار (٣/ ٥٨٨)، وفي عمدة القاري (٥/ ٢٨٤): "والحديث يدل على أن ترك الجهر عندهم كان ميراثًا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - يتوارثونه خلَفُهم عن سلَفِهم، وهذا وجهٌ كافٍ في المسألة، ولو كان - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها دائمًا لما وقع فيه اختلاف ولا اشتباه، ولكان معلومًا بالاضطرار، ولما قال أنس: لم يجهر بها - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا قال عبد الله بن مغفل ذلك أيضًا، وسماه حدثًا، ولما استمر أهل المدينة في محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك الجهر، ... ، ولا يظن عاقل أن أكابر الصحابة والتابعين وأكثر أهل العلم، كانوا يواظبون على خلاف ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله".
• والعجب بعدما رأيتَ من هذا السرد، وما فيه من بيان الحجج الباهرة، والبراهين الساطعة، على عدم ثبوت حديث واحد صريح في الجهر بالبسملة في الصلاة، في مقابل حديث أنس المتفق على صحته، وهو نص في المسألة، وقد ثبت فيه لفظ عدم الجهر بالبسملة، العجب بعد ذلك أن تقرأ لأبي شامة المقدسي قوله في كتابه المصنف في الجهر بالبسملة: "اعلم أن الأحاديث الواردة في الجهر كثيرة متعددة عن جماعةٍ من الصحابة