أنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تدل بهذا السياق على صحبة راوي هذا الحديث؛ حيث إن التابعي لم يشهد له بالصحبة ولا بالرؤية ولا بالسماع، بأن يقول مثلًا: سمعت رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أخبرني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقول هاهنا بأنه سح رجلًا يدَّعي سماع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما وهو من قومه وقبيلته، مما يكون أدعى لحفظ اسمه، أو نسبته إلى صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ في ذلك شرف لجهينة، وعليه: فهذه دعوى من مجهول؛ فلا تقبل، ولا تنطبق عليها القاعدة المعروفة بأن جهالة الصحابي لا تضر، فإن هذا في الصحابي الَّذي ثبتت صحبته لا من طريق إخبار الراوي عن نفسه بأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو نحو ذلك، إذ هو بمعنى تعديل الراوي نفسه، ويشهد لهذا المعنى:
ما ذكره الأثرم عن الإمام أحمد، فقد سأله الأثرم عن حديث خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إعادة الوضوء من اللمعة، فقال:"هذا إسناد جيد؟ قال: نعم، قلت لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه؛ فالحديث صحيح؟ قال: نعم" [بيان الوهم (٢/ ٦١١)، الإمام (٢/ ١١)، المغني (١/ ٩١)، نصب الراية (١/ ٣٥ - ٣٦)، البدر المنير (٢/ ٢٣٩)، التلخيص (١/ ١٦٧)، فتح الباري لابن رجب (١/ ٢٩١)، راجع الحديث المتقدم برقم (١٧٥)].
وقال أبو علي بن السكن: حدثني محمد بن يوسف، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: سمعت عبد الله بن الزبير الحميدي، يقول:"إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حجة، وإن لم يسم ذلك الرجل؛ لأنَّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم عدول" [بيان الوهم (٢/ ٦١١)].
وكلام ابن عبد البر هو في هذا السياق، فقد قال في التمهيد (٤٧/ ٢٢) فيما رواه مالك، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر، وقال:"تقووا لعدوكم"، وصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو بكر: قال الَّذي حدثني: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج ... "، قال: "هذا حديث مسند صحيح، ولا فرق بين أن يسمي التابعُ الصاحبَ الَّذي حدثه أو لا يسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأنَّ الصحابة كلهم عدول مرضيون ثقات أثبات، وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث".
ففي هذه النقول الثلاثة صح الحديث وثبت لما شهد التابعي للصاحب بالصحبة، وعندئذ لم تضر جهالته، ولم تكن صحة الحديث متوقفة على معرفة عينه، طالما ثبتت له الصحبة بشهادة التابعي له بذلك، بخلاف ما لو أخبر هو عن نفسه، أو قال بأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.
وبناءً على ذلك؛ فلو قلنا بترجيح رواية ابن أبي هلال فلا تصح أيضًا؛ لعدم ثبوت صحبة راويها المجهول؛ لا سيما ومعاذ الجهني لا يروي عن الصحابة فقط، بل ويروي عن التابعين أيضًا [وانظر الحديث المتقدم برقم (٤٩٧)].