وقال ابن عبد البر في التمهيد (١٩/ ٢٥٦): "قال أصحاب الشافعي: فحديث ابن الحويرث أولى ما قيل به في هذه المسألة؛ لأنَّ فيه زيادة سكت عنها غيره، فوجب قبولها، واختلف الفقهاء في الاعتماد على اليدين عند النهوض إلى القيام، فقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم: يعتمد على يديه إذا أراد القيام، وروي عن ابن عمر أنَّه كان يعتمد على يديه إذا أراد القيام، وكذلك روي عن مكحول وعمر بن عبد العزيز وجماعة من التابعين،. . .، وقال الثوري: لا يعتمد على يديه إلا أن يكون شيخًا كبيرًا، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وهو قول إبراهيم النخعي، وقال الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل إذا نهض يعتمد على فخذيه".
قال النوويّ في المجموع (٣/ ٤٠٧): "والجواب عن أحاديثهم: أنها كلها ليس فيها شيء صحيح؛ إلا الأثر الموقوف على ابن مسعود، ولا تترك السُّنَّة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول غيره".
وقال ابن عثيمين:"الذي يظهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يجلس لأنه كبر وأخذه اللحم، فكان لا يستطيع النهوض من السجود إلى القيام مرة واحدة، فكان يجلس ثمَّ إذا أراد أن ينهض ويقوم اعتمد على يديه؛ ليكون ذلك أسهل له، هذا هو الظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان القول الراجح في هذه الجلسة - أعني: الجلسة التي يسميها العلماء جلسة الاستراحة - أنَّه إن احتاج إليها لكبر، أو ثقل، أو مرض، أو ألم في ركبتيه أو ما أشبه ذلك فليجلس، ثمَّ إذا احتاج أن يعتمد عند القيام على يديه فليعتمد على أي صفة كانت، سواء اعتمد على ظهور الأصابع؛ أي: جميع أصابعه، أو على راحته، أو غير ذلك، المهم أنَّه إذا احتاج إلى الاعتماد فليعتمد، وإن لم يحتج فلا يعتمد" [مجموع الفتاوى والرسائل (١٣/ ١٨٢)، وانظر: الشرح الممتع (٣/ ١٣٤)].
قلت: مالك بن الحويرث هو راوي حديث: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"، وفي أوله قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَةٌ متقاربون [تقدم تخريجه برقم (٥٨٩)]، فلو كانوا غير مأمورين بالتأسي به في هذه الجلسة، وفي كيفية النهوض، لكونهم كانوا شبابًا؛ لما آخر النبي - صلى الله عليه وسلم - البيان عن وقت الحاجة، ولما قال لهم قولًا عامًا:"صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"، ولأخبرهم بأنّه إنما فعل ذلك لكبر سنه - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل ذلك في موضع آخر، كما في حديث معاوية بن أبي سفيان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبادروني بركوع، ولا بسجود، فإنَّه مهما أسبقْكم به إذا ركعتُ تدركوني به إذا رفعتُ، إني قد بدَّنْت" [تقدم برقم (٦١٩)، وهو حديث صحيح]، فلما لم يقع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تأسى به مالك في هاتين الصفتين من صفات الصلاة، والله أعلم.
وبهذا المعنى قال ابن حجر في الدراية (١/ ١٤٧): "قوله: وهو محمول على حال الكبر؛ تأويل يحتاج إلى دليل، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يفصِّل له، فالحديث حجة في الاقتداء به في ذلك".