قد اعتمد أيضًا على هذا النقل، لكن على فرض عدم سماع يحيى من زيد، فإن احتمال الإجازة هنا قائم، كان يكون زيد أجاز يحيى برواية حديثه، ثم أرسل إليه الكتاب بواسطة أخيه معاوية، ومعاوية: ثقة، قد سمع من أخيه زيد، وروى عنه، قال ابن القطان في بيان الوهم (٢/ ٣٧٩/ ٣٧٨): "والغالب على الظن أن زيدًا أجازه أحاديثه، وبلَّغه إجازته أخوه معاوية، فحدث يحيى بها عنه قائلًا: حدثنا، وكان الأكمل أن يقول: إجازةً، والرجل من مذهبه جواز التدليس، بل كان عاملًا به، فجاءت روايته عنه مظنونًا بها السماع، وليست بمسموعة، ... " إلى أن قال: "ويزداد إلى ذلك في حديث يحيى بن أبي كثير أنه أيضًا ولو قال: حدثنا، أو: أخبرنا، فينبغي أن لا يجزم بأنه مسموع له، لاحتمال أن يكون مما هو عنده بالإجازة، أما إذا صرح بالسماع فلا كلام فيه، فإنه ثقة حافظ، صدوق، فيقبل منه ذلك بلا خلاف". [وانظر أيضًا: بيان الوهم (٣/ ١٣٨٨/٥٨٩)].
قلت: قوله: "لم يقرأه، ولم يسمعه منه"؛ لا يمنع من وقوع ذلك بعد هذه الواقعة، وأن يحيى قد التقى بزيد وسمع منه الكتاب، بل قد ثبت أن زيدًا كان يأتي يحيى بن أبي كثير فيحدثه، ويسمع منه يحيى، فيردُّ ذلك ما ذهب إليه ابن القطان، من أن يحيى بن أبي كثير كان يطلق لفظ التحديث على الإجازة، ويتجوَّز في ذلك، وليس الأمر كذلك، وإنما هي على أصلها في إثبات السماع، وسيأتي ذكره قريبًا، والله أعلم.
• وقال ابن معين في موضع آخر (٢/ ٧٠٤/ ٣٩٨٣): "لم يلق يحيى بن أبي كثير زيد بن سلام، وقدِم معاوية بن سلام عليهم فلم يسمع يحيى بن أبي كثير [منه شيئًا]، أخذ كتابه عن أخيه، ولم يسمعه، فدلسه عنه" [تاريخ دمشق (١٩/ ٤٢٨)].
وفي هذه الرواية إثبات كون يحيى بن أبي كثير لم يسمع من زيد ولم يلقه، وإنما يروي حديث زيد من كتاب أخيه معاوية بن سلام، وأنه أخذ كتاب معاوية عن زيد، فرواه عن زيد، وأسقط ذكر معاوية، فدلسه بذلك، وعلى ذلك فإن مثل ذلك لا يقدح فيما يرويه يحيى بن أبي كثير عن زيد، طالما قد عرفنا الواسطة بينهما، وأنه ثقة، فلا يضر إسقاطه حينئذ، ولذلك فقد احتملوا تدليس ابن عيينة لكونه كان لا يدلس إلا عن ثقة، وكذلك احتملوا رواية حميد الطويل عن أنس، ولم يسمع من أنس إلا القليل؛ لأن ثبته فيه ثابت البناني، وغير ذلك، مما لا يقدح في الاتصال وثبوت الرواية, والله أعلم.
• ومع وجود هذا النفي للسماع؛ ومع كون أبي حاتم الرازي هو أحد من روى هذا القول عن ابن معين نفسه؛ فإنه قد خالفه فيه فأثبت له السماع، ومن المعلوم أن من علم حجة على من لم يعلم، وأن المثبِت مقدَّم على النافي؛ إذ معه زيادة علم، قال أبو حاتم متعقبًا ابن معين في نفيه سماع يحيى من زيد، قال:"وقد سمع منه، حدثنا أبو توبة، عن معاوية -يعني: ابن سلام-، قال: قال يحيى بن أبي كثير: قد كان أبوك [كذا, ولعلها تحرفت عن: أخوك] يجيئنا فنسمع منه". [المراسيل (٨٩٦ و ٨٩٧)، تحفة التحصيل (٣٤٦)].