ويوضح حجة القائلين بأن التحري في حديث ابن مسعود محمول على البناء على اليقين في حديث أبي سعيد، ما قاله ابن المنذر في الأوسط (٣/ ٢٨٧): "وقالت طائفة: معنى التحري الرجوع إلى اليقين؛ لأنه أمر أن يتحرى الصواب، والصواب الرجوع إلى اليقين، وإنما أمر أن يرجع من شك إلى اليقين، ولم يؤمر أن يرجع من شك إلى شك، ومن حجة من قال بهذا أن يقول: لما كان عليَّ إذا شككتُ؛ أصليتُ الظهر أم لا؟ أن أصليها بتمامها حتى أكون على يقين من أدائها، فكذلك إذا شككت في ركعة منها، أن عليَّ أن آتي بها حتى أكون على يقين من أدائها".
وقد قال بهذا جمع من العلماء، والصحيح قول أحمد ومن تبعه، والله أعلم أوانظر أيضًا: معالم السنن للخطابي (١/ ٢٣٨)، معرفة السنن والآثار (٢/ ١٦٦)، نصب الراية (٢/ ١٧٣)].
• ويزيل هذا الإشكال الذي أورده القائلون بحمل حديث ابن مسعود في التحري على حديث أبي سعيد في البناء على اليقين: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة التي أطال في تحريرها، فنسوق بعض كلامه فيها مما يشفي الغليل، فيقول:"وقوله: "إذا شك أحدكم" إنما هو حال مَن ليس له اعتقاد راجح وظن غالب، فهذا إذا تحرى وارتأى وتامل؛ فقد يظهر له رجحان أحد الأمرين، فلا يبقى شاكًّا، وهو المذكور في حديث ابن مسعود، فإنه كان شاكًّا قبل التحري، وبعد التحري ما بقي شاكًّا، مثل سائر مواضع التحري، كما إذا شك في القبلة فتحرى حتى ترجح عنده أحد الجهات، فإنه لم يبق شاكا، وكذلك العالم المجتهد، والناسي إذا ذكر، وغير ذلك، وقوله في حديث أبى سعيد: "إذا شك أحدكم" خطاب لمن استمر الشك في حقه، بأن لا يكون قادرًا على التحري، إذ ليس عنده أمارة ودلالة ترجح أحد الأمرين، أو تحرَّى وارتأى فلم يترجح عنده شيء، ومَن قال: ليس هنا دلالة تبين أحد الأمرين؟ غلِطَ، فقد يَستدِل على ذلك: بموافقة المأمومين إذا كان إمامًا، وقد يستدل بمخبر يخبره، وإن لم يكن معه في الصلاة، فيحصل له بذلك اعتقاد راجح، وقد يتذكر ما قرأ به في الصلاة فيذكر أنه قرأ بسورتين في ركعتين، فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعة، وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول فيعلم أنه صلى ثنتين لا واحدة، وأنه صلى ثلاثًا لا اثنتين، وقد يذكر أنه قرأ الفاتحة وحدها في ركعة ثم في ركعة فيعلم أنه صلى أربعًا لا ثلاثًا، وقد يذكر أنه صلى بعد التشهد الأول ركعتين فيعلم أنه صلى أربعًا لا ثلاثًا، واثنتين لا واحدة، وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول والشك بعده في ركعة فيعلم أنه صلى ثلاثًا لا اثنتين، ومنها أنه قد يعرض له في بعض الركعات إما من دعاء وخشوع، وإما من سعال ونحوه، وإما من غير ذلك ما يعرف به تلك الركعة، ويعلم أنه قد صلى قبلها واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، فيزول الشك، وهذا باب لا ينضبط، فإن الناس دائمًا يشكون في أمور هل كانت أم لم تكن، ثم يتذكرون، ويستدلون بأمور على أنها كانت، فيزول الشك، فإذا تحرى الذي هو أقرب للصواب أزال الشك، ولا فرق في هذا بين أن يكون إمامًا أو منفردًا.