مكثه بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا، لكونها أقصى مدة أقامها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفره؟
فيقال: لم يثبت لدينا ما يدل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أزمع إقامةً، وإنما كان ينتظر أن تستقر الأمور في مكة حتى يستأنف السير إلى حنين، وقيل: كانت إقامته بمكة استعدادًا للقاء هوازن ولتدبير الحرب، لذلك فإن مقامه بمكة هذه المدة إنما وقع اتفاقًا لأجل تحصيل المصلحة، ولو احتاج لأكثر من ذلك لأطال المقام، فلم يعد للتحديد بتسعة عشر يومًا معنى.
قال إسحاق بن منصور الكوسج في مسائله (١٧١٢): "قيل لأحمد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقام بمكة ثماني عشرةَ زمنَ الفتح؟ قال: إنما أراد حنينًا لم يكن ثمَّ إجماعٌ، وأقام بتبوكَ عشرين لم يكن ثمَّ إجماعٌ، ولكن إذا أُجمعَ على إقامةِ زيادة على أربعٍ أتمَّ الصلاة.
قال إسحاق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: هذه الأشياء تُتَّبعُ كما جاءت، والأربعُ ليسَ بقوي".
قال المهلب: "والفقهاء لا يتأولون هذا الحديث كما تأوله ابن عباس، ويقولون: إنه كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى هذه المدة التى ذكرها ابن عباس غير عازم على الاستقرار، لأنه كان ينتظر الفتح، ثم يرحل بعد ذلك، فظن ابن عباس أن التقصير لازم إلى تسعة عشر يومًا، ثم ما بعد ذلك حضرٌ تُتَمُّ فيه الصلاة، ولم يراع نيته فى ذلك، وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة" [شرح صحيح البخاري لابن بطال (٣/ ٦٦)، التوضيح لابن الملقن (٨/ ٤٣٥)].
ونحتج في هذا أيضًا بقول إسحاق بن راهويه [وهو ممن استحسن قول ابن عباس]: "فلا بيان فيه أن لو كان أكثرَ كان يُتمُّ" [مسائل الكوسج (٣١٢)].
وفي الاعتراض عليه يقول ابن العربي في القبس (١/ ٣٣٣)، وفي المسالك (٣/ ٨٤): "وإنما كان متوكِّفًا للرحيل، متشوِّفًا إلى القفول، والعوارض تلويه، حتى تجرَّد عنها، ومن أقام على هذه الحال سَنةً قصر الصلاة".
وقال ابن القيم في فوائد غزوة تبوك من زاد المعاد (٣/ ٥٦١): "ومنها: أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت؛ إذا كان غيرَ مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع".
وقال ابن حجر في الفتح (٢/ ٥٦٢): "فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان مترددًا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل".
° قلت: هذا من وجه، ومن وجه آخر: فقد صح عن ابن عباس أنه أفتى بغير ذلك:
أ - فقد روى جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن سماك بن سلمة، عن ابن عباس، قال: إن أقمتَ في بلدٍ خمسةَ أشهرٍ فاقْصُر الصلاة.
وهذا موقوف على ابن عباس بإسناد صحيح، تقدم تخريجه تحت الحديث رقم (١٢٣٢).