هذا السيد العابد الصاحب كان يقول لما شاخ: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك قال له عليه الصلاة والسلام في الصوم، وما زال يناقصه حتى قال له: (صم يومًا، وأفطر يومًا، صوم أخي داود -عليه السلام-. وثبت أنه قال:"أفضل الصيام صيام داود". ونهى عليه الصلاة والسلام عن صيام الدهر. وأمر عليه الصلاة والسلام بنوم قسط من الليل، وقال:"لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وكل من لم يزُمَّ نفسه في تعبده وأوراده بالسُّنَّة النبوية، يندم ويترهب ويسوء مزاجه، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال - صلى الله عليه وسلم - معلمًا للأمة أفضل الأعمال، وآمرًا بهجر التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها، فنهى عن سرد الصوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.
فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور، والعابد العالم بالآثار المحمدية، المتجاوز لها مفضول مغرور، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل.
ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة، وجنبنا الهوى والمخالفة".
وقال ابن حجر في الفتح (٩/ ٩٧): "وكان النهي عن الزيادة ليس على التحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وعرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق، وهو النظر إلى عجزه عن سوى ذلك في الحال أو في المآل، وأغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة، فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله أعلم".
° قلت: حاصل ما تقدم وملخصه:
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سبع، وقال له: "فاقرأه في سبعٍ، ولا تزد على ذلك"، ثم انتهى به مرة ثانية إلى خمس، ثم انتهى به مرة ثالثة إلى ثلاث، وهذا مما يدل على أن ابن عمرو فهم أن النهي لم يكن للتحريم، وإنما هو للإرشاد، رفقًا به، ولذلك فإنه لم ينته عن اجتهاده في العبادة من المرة الأولى، فراجعه النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مرة لكي يترك ما كان عليه، قال البخاري بعد حديث أبي عوانة عن مغيرة (٥٠٥٢)، وفيه: "واقرأ في كل سبع ليال مرة"، قال: "وقال بعضهم: في ثلاث، وفي خمس، وأكثرهم على سبع".
والثابت في قصة عبد الله بن عمرو أن الخطاب كان موجهًا له رفقًا به، معللًا ذلك بأنه قد يطول به العمر فيعجز عن الاستمرار عليه، وهذا هو ما وقع لابن عمرو بعدما كبر، حتى قال: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليه صاحبه؛ لذا حذر ابن عمرو من مغبة الاستمرار على هذا الاجتهاد الذي لن يطيقه إذا كبر؛ لذا فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على