ويحسن التنبيه في مثل هذا الموضع على ما ذكر في كتب التفسير من قصة الغرانيق:
قد روي؛ أن الشيطان ألقى في أمنيته، فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠)} قال: فأجرى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترجى، مثلهن لا ينسى؛ قال: فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرأها، وسجد معه المسلمون والمشركون؛ فلما علم الذي أجرى على لسانه، كبر ذلك عليه، فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} ... إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)}.
فهده قصة باطلة؛ يستحيل وقوعها؛ تروى مرسلة من وجوه، وليس لها إسناد قائم متصل [انظر: ما أخرجه ابن سعد في الطبقات (١/ ٢٠٥)، والبزار (١١/ ٢٩٦/ ٥٠٩٦)، والطبري في تفسيره (١٦/ ٦٠٤ - ٦٠٨ و ٦١٤)، وابن أبي حاتم في تفسيره (٨/ ١٣٩٩٨ - ١٤٠٠٤)، والطبراني في الكبير (٩/ ٣٤/ ٨٣١٦) و (١٢/ ٥٣/ ١٢٤٥٠)، والبيهقي في الدلائل (٢/ ٢٨٦)، وأبو الحسن الواحدي في أسباب النزول (٣٠٩)، والضياء في المختارة (١٠/ ٨٨ و ٨٩/ ٨٣ و ٨٤) و (١٠/ ٢٣٤/ ٢٤٧)، [وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (٣/ ٣٠٣)، مفاتيح الغيب للفخر الرازي (٢٣/ ٢٣٧)، الفتح لابن حجر (٨/ ٤٣٩ و ٦١٤)] [وقد ردها البزار، وهو أرفع من رواها من المحدثين، وبيَّن وهَمَ من وصل الحديث، وأن المحفوظ فيه الإرسال، ثم هو بعد ذلك معروف من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومحمد بن السائب الكلبي: متهم بالكذب] [ومما قيل في ردها: قال القاضي عياض في الشفاء (٦٤٥): "يكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل"، ثم قال:"مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته"، وقد أطال في توهينه ورده] [ومن عجائب ما قيل في رد هذه الرواية، ما نقله الفخر الرازي في تفسيره (٢٧/ ٦١٤) عن صديق له من أرباب السلطنة؛ إذ يقول:"باطل من وجهين آخرين؛ الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي"؛ فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما سلك عمر فجًّا إلا وسلك الشيطان فجًّا آخر"، فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى"] [ومما يؤكد بطلانها واستحالة وقوعها: الآيات المتلوة بعدها والتي تبطلها من أصلها، وهي قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (٢٣)} [النجم: ٢١ - ٢٣]؛ فكيف يثني على آلهتهم ثم يرجع فيسبها وينسف وجودها، قال الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير (١٧/ ٣٠٤):