للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادَ الْقَوْلِ بِإِيجَابِ هَذَا؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِبُوا اعْتِقَادَ هَذَا النَّفْيِ، لَا عَلَى الْخَاصَّةِ وَلَا عَلَى الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ وُجُوبُ هَذَا مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ، فَإِنَّ وُجُوبَ هَذَا الِاعْتِقَادِ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ سَوَاءٌ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: ١٩] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: ٧] .

وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ عَدَمُ إيجَابِ الشَّارِعِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، كَانَ دَعْوَى وُجُوبِهِ بِالْعَقْلِ مَرْدُودًا فَإِنَّ الشَّارِعَ أَقَرَّ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَوْجَبَهَا كَمَا أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ، وَحَرَّمَ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ.

وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ هَذَا الْقَوْلِ مُنْتَفِيًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى النَّاسِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعَاقِبَ تَارِكَهُ وَيَجْعَلَهُ مِحْنَةً، مَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ وَالَاهُ وَمَنْ خَالَفَهُ فِيهِ عَادَاهُ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ هُوَ أَحَدُ مَا سَلَكَهُ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُمْتَحِنِينَ لِلنَّاسِ. كَابْنِ أَبِي دَاوُد وَأَمْثَالِهِ لَمَّا نَاظَرَهُمْ مَنْ نَاظَرَهُمْ قُدَّامَ الْخُلَفَاءِ كَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ، فَإِنَّهُمْ بَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي أَوْجَبُوهُ عَلَى النَّاسِ، وَعَاقَبُوا تَارِكَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَصْحَابِهِ، وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَلَا أَمَرُوا بِهِ، وَلَا عَاقَبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يَجِبُ دُعَاءُ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَعُقُوبَةُ تَارِكِيهِ، لَمْ يَجُزْ إهْمَالُهُمْ لِذَلِكَ، وَإِنَّ الْقَائِلَ لِهَذَا الْقَوْلِ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ مُصِيبٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِ كُلِّ قَوْلٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.

وَذَلِكَ يَتَّضِحُ بِالْوَجْهِ الثَّامِنِ: وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَيُعَاقَبُ تَارِكُوهُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ إذْ أُصُولُ الْإِيمَانِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِقَادُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ وَتَكُونُ فَارِقَةً بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالسُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ وَتَبْلِيغُهُ، لَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ كَحُكْمِ آحَادِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِي زَمَانِهِ حَتَّى شَاعَ الْكَلَامُ فِيهَا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ إذْ الِاعْتِقَادُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لِلْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ أَحْكَامُهَا، مِثْلُ أَسْمَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>