للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّهِ وَصِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ أَوْ سَبَبُ وُجُوبِهِ. بَلْ الْعِلْمُ بِهَا وَوُجُوبُ ذَلِكَ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَالْأَوَّلُونَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ الْآخَرِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنْ يَنْبُوعِ الْهُدَى، وَمِشْكَاةِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ. فَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْهُدَى، هُمْ الَّذِينَ بَاشَرَهُمْ الرَّسُولُ بِالْخِطَابِ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَعَامَّتِهِمْ، وَهَذِهِ الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْهُدَى، فَهُمْ بِهَا أَحَقُّ. فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، كَانَ عَدَمُ وُجُوبِهِ مَعْلُومٌ عِلْمًا وَيَقِينِيًّا، وَكَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ.

وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَقْلِيَّاتِ، غَايَتُهَا أَنْ يُجْهِدَ فِيهَا أَصْحَابُهَا عُقُولَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَالْقَوْلُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَإِنْ اعْتَقَدَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَقْلِيٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَ هُوَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقْوَالٍ يَقُولُ أَصْحَابُهَا إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهَا فِي الْعَقْلِ، وَتَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، حَتَّى إنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي الْقَوْلِ إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَيَقُولُ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى إنَّهُ بَاطِلٌ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا غَيْرَ مَعْلُومِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مَعْلُومَ الْفَسَادِ أَوْ مَظْنُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي يَقُولُ قَائِلُهَا إنَّهَا مَقْطُوعٌ بِهَا تَعْتَوِرُهَا هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ، وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهَا بَلْ ظَنُّهَا وَالشَّكُّ فِيهَا وَظَنُّ نَقِيضِهَا وَالْقَطْعُ بِنَقِيضِهَا. ثُمَّ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مَعْلُومًا أَنَّهَا صَوَابٌ عِنْدَ صَاحِبِهَا، فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ، إذْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً مُشْتَبِهَةً، فَلَا يَجِبُ التَّكْلِيفُ بِمُوجَبِهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً بِأَدْنَى نَظَرٍ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ مَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ عَظِيمَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مَا اعْتَقَدَ قَائِلُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ يَكُونُ كَذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>