"وهو المبالغة في المدح والغلو، فالمعنى: لا تجاوزوا الحد في مدحي بغير الواقع، فيجركم ذلك إلى الكفر كما جر النصارى لما تجاوزوا الحد في مدح عيسى عليه السلام بغير الواقع واتخذوه إلهاً. قال: والتشبيه في قوله: "كما أطرت النصارى عيسى" في زعم الألوهية، ويصح أن يكون ليس بمجرد ذلك، بل لنسبة ما ليس فيه، فيكون أعم". قلت: وهذا هو الصحيح، لأننا نعلم بالضرورة أن النصارى قد أطروا عيسى عليه السلام بغير الألوهية أيضاً، فمدح المسلمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما ليس فيه يكون تشبهاً بالنصارى، فينهى عنه لأمرين: الأول: كونه كذباً في نفسه، وهو - صلى الله عليه وسلم - أرفع مقاماً من أن يمدح به. الآخر: سداً للذريعة، وخشية أن يؤدي ذلك إلى ما ادعته النصارى في نبيهم من الألوهية ونحوها. وقد وقع في هذا بعض المسلمين، على رغم من هذا الحديث وغيره، وذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة" (٧٢ - ٧٥). قلت: ومع ذلك فإننا لا نزال نسمع بعضهم يترنم بقول القائل مخاطباً النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم! فهذا شرك في بعض صفاته تعالى، فإن الله عز وجل كما أنه واحد في ربوبيته وألوهيته، فكذلك هو واحد في صفاته، لا يشاركه في شيء منها أحد من مخلوقاته، مهما سمت منزلته، وعلت رتبته، فهذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر يسمع جارية تقول في غنائها البريء: وفينا نبي يعلم ما في غد. فيقول لها - صلى الله عليه وسلم -: "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين". أخرجه البخاري وغيره.
فأين قول هذه الجارية مما يردده بعض المسلمين منذ مئات السنين: ومن علومك علم اللوح والقلم! فهو عندهم ليس يعلم فقط ما في غد، بل يعلم ما كان وما سيكون مما سطره القلم في اللوح المحفوظ! بل هو بعض علمه! ! سبحانك هذا بهتان عظيم وإثم مبين. ومن كان له اطلاع على كتب الصوفية والتي يسمونها بالحقائق (! )، وكتب الموالد، ونحوها، يرى من هذا القبيل العجب العجاب. وقد يتوهم كثير من الناس الذين يريدون أن يحسنوا الظن بكل الناس أن هذه الأقوال التي تقال في مدحه - صلى الله عليه وسلم - لا يقصدون معانيها الظاهرة منها، وأن كثيرين منهم لا يخطر في بالهم ذلك. ونحن نتمنى أن يكون هذا صحيحاً، ولكن: "ما كل ما يتمنى المرء يدركه" ... فقد سمعنا من أناس يظن فيهم العلم والصلاح ما يجعلنا مضطرين أن نسيء الظن بهم وبعقائدهم، وآخر ما وقع من ذلك أن شيخاً منهم (هلك قريباً) كان يدرس في مسجد بني أمية، فسر قوله تعالى في سورة الحديد [هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم]، قال هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما اعتُرض عليه، حاول أن يلطف الأمر بشيء من التأويل، مصراً على إرجاع الضمير إليه - صلى الله عليه وسلم -، فلما قيل له اقرأ الآية التي بعدها: [هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش]، فهل هو محمد؟ فبهت ... ومن يعلم مذهب القائلين بوحدة الوجود، لا يستغرب صدور مثل هذه الكفريات منهم.