وإن كان سمع منه، إلا أنه لم يدرك هذه القصة التي يحكيها، وهو هنا لم يسند الحديث عن عمرو بن العاص، ولم يروه عنه رواية، وإنما يحكي قصته في غزوة ذات السلاسل، ولم يدرك زمان وقوعها، فهو ظاهر الانقطاع، والله أعلم.
ومن لطائف هذا الإسناد المصري، رواية أربعة من التابعين من أهل مصر بعضهم عن بعض: يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس السهمي.
• وحاصل ما تقدم: أن رواية عمرو بن الحارث هي المحفوظة، لكنها مرسلة، ورواية يحيى بن أيوب: شاذة، وعليه فلا يصح الاستدلال بها على المسائل الآتية:
١ - تيمم الجنب إذا خاف على نفسه المرض أو الموت.
٢ - صلاة المتيمم بالمتوضئين.
٣ - أن التيمم لا يرفع الحدث، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو: "صليت بأصحابك وأنت جنب"، فأثبت له الجنابة مع التيمم.
وما رُوي عن عمرو في هذا أنه لما خاف على نفسه من البرد: غسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة؛ ولم يتيمم، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك: أقوى، ولكنه: مرسل أيضًا، والمرسل: ليس بحجة.
تنبيهان:
الأول: قول ابن المنذر في الأوسط (٢/ ٢١): "وقد ثبت أن عمرو بن العاص احتلم في ليلة باردة فأشفق إن اغتسل أن يهلك فتيمم وصلى".
ثم أورد الحديث في بابه: "ذكر تيمم الجنب إذا خشي على نفسه البرد"، واحتج به على ذلك.
فأقول: قول ابن المنذر في نفسه صحيح إذ هو جارِ على ظاهر السند، فقد قال (٥٢٨): "حدثنا أحمد بن داؤد: ثنا حرملة، عن ابن وهب: ثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس: أن عمرو بن العاص. . . فذكره بلفظ يحيى بن أيوب تمامًا، بذكر التيمم، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، غير شيخ ابن المنذر فقد أحسن به الظن، ومنه البلية؛ فهو: متروك كذاب، يضع الحديث، قلب المتن، فجعل متن حديث يحيى بن أيوب، لحديث عمرو بن الحارث، وقد تقدم الكلام على ذلك قريبًا.
فلا لوم إذًا على ابن المنذر في حكمه، والحق بخلافه، كما تقدم بيانه.
الثاني: قول البيهقي في السنن (١/ ٢٢٦): "ويحتمل أن يكون قد فعل ما نقل في الروايتين جميعًا: غسل ما قدر على غسله، وتيمم للباقي".
وما جعله البيهقي احتمالًا، جعله بعضهم متعينًا [انظر: أضواء البيان (٢/ ٤١)] [المجموع (٢/ ٢٨٣)، صحيح السنن (٢/ ١٥٨)]، وقد تبين أن كلا الروايتين لا يصح.