وقد تبين بهذا أن لفظ الواجب ليس نصًّا في الألزام بالشيء، والعقاب على تركه؛ بل قد يراد به ذلك -وهو الأكثر-، وقد يراد به تأكد الاستحباب والطلب ... ".
وقال في جامع العلوم والحكم ص (٥٢٥ - ٥٢٦) معقبًا على تعبيرات بعض الأئمة مثل مالك وأحمد وإسحاق، قال: "وسبب هذا -والله أعلم- أن التعبير بلفظ السُّنَّة قد يفضي إلى التهاون بفعل ذلك، وإلى الزهد فيه وتركه، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه، والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله، فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به، والرغبة فيه.
وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه، ولا يعاقب عليه عند الأكثرين؛ كغسل الجمعة، وكذلك ليلة الضيف عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وإنما المراد به المبالغة في الحث على فعله وتأكيده".
وقد لخص القرطبي في المفهم (٢/ ٤٧٨) أدلة الفريقين بقوله: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم": ظاهر في وجوب غسل الجمعة، وبه قال أهل الظاهر، وحكي عن بعض الصحابة، وعن الحسن، وحكاه الخطابي عن مالك، ومعروف مذهبه وصحيحه: أنه سُنَّة، وهو مذهب عامة أئمة الفتوى. وحملوا تلك الأحاديث على أنه واجب وجوب السنن المؤكدة، ودلهم على ذلك أمور:
أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة:"من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له"، فذكر فيه الوضوء، واقتصر عليه دون الغسل، ورتب الصحة والثواب عليه، فدل على أن الوضوء كاف من غير غسل، وأن الغسل ليس بواجب [تقدم تخريجه والكلام على فقهه تحت الحديث رقم (٣٤٣)].
وثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم - لهم حين وجد منهم الريح الكريهة:"لو اغتسلتم ليومكم هذا" وهذا عرض، وتحضيض، وإرشاد للنظافة المستحسنة، ولا يقال مثل ذلك اللفظ في الواجب [حديث عائشة تقدم برقم (٣٥٢)، وقال ابن العربي في القبس (١/ ٢٦٦): "فبينت رضوان الله عليها سبب الغسل، وأوضحت علته، فارتبط الغسل بها، والفرائض المطلقة لا تتعلق بالعلل العارضة"، وقال ابن رجب في الفتح (٥/ ٤٠٩): "وهذا من أوضح الأدلة على أن غسل الجمعة ليس بواجب، حتى ولا على من له ريح تخرج منه، وإنما يؤمر به ندبًا واستحبابًا، لقوله: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا""، ثم قال القرطبي:]
وثالثها: تقرير عمر والصحابة لعثمان - رضي الله عنهم - على صلاة الجمعة بالوضوء من غير غسل، ولم يأمروه بالخروج، ولم ينكروا عليه، فصار ذلك كالإجماع منهم؛ على أن الغسل ليس بشرط في صحة الجمعة، ولا واجب [تقدم تخريجه برقم (٣٤٠)، والكلام على فقهه بتوسع ونقل كلام الأئمة فيه] [ويزاد عليه: قال ابن العربي في القبس (١/ ٢٦٦): "وجه التعلق منه: أن عمر والصحابة بأجمعهم أعلموا ذلك الرجل بتأكيد الغسل، وأقروه على تركه؛ ولو