يجوز تأخير البيان عن موضع الحاجة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - هنا عام في الفرض والنفل بدليل قوله:"إذا كان واسعًا فخالف بين طرفيه" فهذا القدر مشترك بين الفرض والنفل، فجعْلُ الشق الثاني خاصًّا بالنفل دون الفرض تحكم بغير دليل، فإن قيل: قد ورد ذلك في النفل بدليل سياق القصة، وأنها كانت في صلاة الليل، كما في رواية البخاري (٣٦١): فجئت ليلةً لبعض أمري، فوجدته يصلي، فيقال: الأصل أن النفل كالفرض إلا ما خصه الدليل، فكل ما جاز في النفل جاز في الفرض؛ إلا ما جاء الدليل بخصوص النفل به دون الفرض، وكما قلنا فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا قد خرج مخرج العموم، ولم يبين فيه لجابر اختصاص ذلك بالنفل دون الفرض، فدل على دخول الفرض فيه، والله أعلم.
وقد دلت الأحاديث على وجوب جعل شيء من الثوب على المنكبين، وأحاديث جواز الصلاة في الثوب الواحد لا تعارض ذلك، بل فيها أنه إذا صلى في ثوب واحد فإنه مأمور بأن يخالف بين طرفيه على عاتقيه، وأما حديث جابر وما كان في معناه فيحمل على حال العجز والضرورة لمن لم يجد إلا ثوبًا واحدًا ضيقًا؛ فإنه حينئذ يتزر به، مع إعراء المنكبين، وذلك أنه من قواعد الشرع الكلية: أن لا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة، والله أعلم.
قال ابن رجب في الفتح (٢/ ١٥٧): "وقول الأثرم وإسحاق بن راهويه: أنه يُفرَّق في ستر المنكبين بين القادر والعاجز، فيجب مع القدرة، ويسقط عند العجز: أشبه الأقاويل في المسألة، وعليه يدل تبويب البخاري، والله أعلم".
• فائدة: في الفرق بين ما يستره العبد في الصلاة، وبين عورة النظر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:". . . فنهى عن النظر واللمس لعورة النظير؛ لما في ذلك من القبح والفحش، وأما الرجال مع النساء فلأجل شهوة النكاح، فهذان نوعان.
وفي الصلاة نوع ثالث: فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانًا، ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عريانًا، ولو كان وحده. فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس؛ فهذا نوع، وهذا نوع.
وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال.
فالأول: مثل المنكبين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، فهذا لحق الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لهؤلاء، ولا لغيرهم.