درجات الصحيح عند أهله، إذ قتادة أحفظ أهل زمانه أو من أحفظهم، وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم، وهذا مما يرَدُّ به قول من زعم: أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه، وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها فرواه من عنده، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علمًا برواة الحديث وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل، وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة، أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه، ويدع موجب العلم والدليل.
ثم يقال: هب أن المعتمر أخذ صلاته عن أبيه، وأبوه عن أنس، وأنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا مجمل ومحتمل، إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حق الضبط إلا بنقل مفصل لا مجمل، والا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر وحماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعي وذويه، وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود ونحوهما، وهم أخذوها عن ابن مسعود، وابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الإسناد أجل رجالًا من ذلك الإسناد، وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وأمثالهم من فقهاء الكوفة، فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإسناد حتى في موارد النزاع، فإن جاز هذا: كان هؤلاء لا يجهرون، ولا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح، ويسفرون بالفجر، وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
. . . لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها، ولئن جاز ذلك ليكونن مالك أرجح من هؤلاء؛ فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجلُّ قدرًا وأعلم بالسُّنَّة وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة، وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة، فقالوا: هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم الأئمة وهلم جرا، ونقلهم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقل متواتر، كلهم شهدوا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صلاة خلفائه، وكانوا أشدَّ محافظةً على السُّنَّة، وأشد إنكارًا على من خالفها من غيرهم، فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية وبني العباس، فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون، وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السُّنَّة في مثل هذا، ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السُّنَّة، بل نحن نعلم ضرورةً أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سُنَّة لا تتعلق بأمر ملكهم، وما يتعلق بذلك من الأهواء، وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض.
وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج لم تكن دون تلك، بل نحن نعلم أنها أقوى منها، فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها،