اللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ، ولم يخرج البخاري والترمذي وأبو داود غيره، والمراد به اسم السورة كما سبق، وثبت في سنن الدارقطني عن أنس قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فكانوا يفتتحون بأم القرآن فيما يجهر به، قال الدارقطني: هذا صحيح، وهو دليل صريح لتأويلنا، فقد ثبت الجهر بالبسملة عن أنس وغيره كما سبق، فلا بد من تأويل ما ظهر خلاف ذلك".
قلت: الرد على ما احتجوا به من أوجه:
• أما قولهم عن رواية شعبة ومن تابعه في التصريح بعدم الجهر بالبسملة بأنها رواية بالمعنى، فهو قول ضعيف؛ سبق ردُّه قريبًا، ببيان أن هذه الرواية محفوظة من حديث أنس، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة، وأرفع درجات الصحيح عند أهله، إذ قتادة أحفظ أهل زمانه أو من أحفظهم، وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم، وهذا مما يرَدُّ به قول من زعم: أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه، وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها فرواه من عنده، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علمًا برواة الحديث وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل، وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة، أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه، ويدع موجب العلم والدليل" [وقد سبق نقله قريبًا].
كذلك فإن رواية الأوزاعي في الجمع بين اللفظين: فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا يذكرون:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول القراءة، ولا في آخرها، هذه الرواية الثابتة [والتي أخرجها مسلم] دالة على أن قتادة كان يروي الحديث باللفظين مرة هكذا، ومرة هكذا، فلما كتب به إلى الأوزاعي جمع بينهما، وهذا يدل على أن قتادة قد سمعه من أنس على الوجهين، وقتادة هو أحفظ من روى هذا الحديث عن أنس؛ فلا تُعَلُّ روايته برواية غيره، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وهو أحفظ وأكثر رواية عن أنس من سعيد بن يزيد أبي مسلمة، فرواية من روى الإثبات مقدمة على رواية من روى النفي، والله أعلم.
قال الذهبي في السير (٧/ ٢١٨) بعد حديث علي بن الجعد عن شعبة وشيبان بلفظ: فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال: "هذا حديث ثابت ما عليه غبار، وقتادة فحافظ يؤدي الحديث بحروفه".
وقال في تعقب كلام الخطيب في مصنفه في الجهر بالبسملة ص (٥٧ - مختصره) بعد رواية الأوزاعي عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس الصريحة بذكر البسملة، قال: "ما أدري عذر الخطيب في رده لمثل هذا، فإنا لو تنازلنا وسلمنا أن حديث قتادة على زعمه معلولًا، يرد عليه هذا الحديث؛ فإنه لا علة له".