والحاصل: فإن لفظ: كانوا لا يجهرون، أو: فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثابت صحيح من حديث أنس.
قال الطحاوي (١/ ٢٠٣): "ففي ذلك دليل أنهم كانوا يقولونها من غير طريق الجهر، ولولا ذلك لما كان لذكرهم نفي الجهر معنى، فثبت بتصحيح هذه الآثار ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وذكرها سرًّا".
وقال ابن رجب في الفتح (٤/ ٣٥٤): "ما ذكروه من اختلاف ألفاظ الرواية يدل على أنهم كانوا يروون الحديث بالمعنى، ولا يراعون اللفظ، فإذا كان أحد الألفاظ محتملًا، والآخر صريحًا لا احتمال فيه، علم أنهم أرادوا باللفظ المحتمل هو ما دل عليها اللفظ الصريح الذي لا احتمال فيه، وأن معناهما عندهم واحد، وإلا لكان الرواة قد رووا الحديث الواحد بألفاظ مختلفة متناقضة، ولا يُظَنُّ ذلك بهم مع علمهم وفقههم وعدالتهم وورعهم.
لا سيما وبعضهم قد زاد في الحديث زيادة تنفي كل احتمال وشك، وهي عدم ذكر قراءة البسملة في القراءة، وهذه زيادة من ثقات عدول حفاظ، تقضي على كل لفظ محتمل، فكيف لا تقبل؟ لا سيما وممن زاد هذه الزيادة الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم وعالمهم، مع ما اشتهر من بلاغته وفصاحته وبلوغه الذروة العليا من ذلك.
والذي روى نفي قراءة البسملة من أصحاب حميد هو مالك، ومالكٌ مالكٌ في فقهه وعلمه وورعه وتحريه في الرواية، فكيف ترد روايته المصرحة بهذا المعنى برواية شيوخ ليسوا فقهاء لحديث حميد بلفظ محتمل؟
فالواجب في هذا ونحوه: أن تجعل الرواية الصريحة مفسرة للرواية المحتملة؛ فإن هذا من باب عرض المتشابه على المحكم، فأما ردُّ الروايات الصريحة للرواية المحتملة فغير جائز، كما لا يجوز رد المحكم للمتشابه.
ومن زعم: أن ألفاظ الحديث متناقضة فلا يجوز الاحتجاج به فقد أبطل، وخالف ما عليه أئمة الإسلام قديمًا وحديثًا في الاحتجاج بهذا الحديث والعمل به".
وقال ابن حجر في النكت (٢/ ٧٦٦) في الرد على الدارقطني ومن تبعه في تعليل رواية عدم الجهر بالبسملة: "وفي ذلك نظر؛ لأنه يستلزم ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى مع إمكان الجمع بينهما، وكيف يحكم على رواية عدم الجهر بالشذوذ وفي رواتها عن قتادة مثل شعبة؟ "، ثم ذكر بأنه قد تابع شعبة عليها: سعيد بن أبي عروبة، وشيبان، إلى أن قال:"فيظهر أن قتادة كان يرويه على الوجهين، وكذلك شعبة".
وقال أيضًا (٢/ ٧٥٣): "والجمع بين هذه الألفاظ ممكن بالحمل على عدم الجهر"، وهو ما ذهب إليه في مؤلفاته أمثل: الفتح (٢/ ٢٢٨ و ٢٦٧)، والدراية (١/ ١٣٣)، وغيرها]: أن محصل روايات حديث أنس: نفي الجهر بالبسملة، إلا أنه يُثبت حديث نعيم المجمر بدلالته على الجهر، والله أعلم.