قال يعقوب:"وسألت علي بن المديني عن الرجل يدلس: أيكون حجة فيما لم يقل: حدثنا؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا؛ حتَّى يقول: حدثنا" [التمهيد (١/ ١٨)، الكفاية (٣٦٢)].
فالجواب: قد سبق التدليل على قلة تدليس ابن إسحاق في سعة روايته، وأن الكثرة والقلة هي مسألة نسبية، تختلف بحسب آراء الأئمة، كما أن التطبيق العملي لابن المديني في شأن ابن إسحاق يدل على أنَّه يقبل حديثه المعنعن، ويراه من صحيح حديثه حتَّى يثبت عنده أنَّه دلسه، قال الحاكم في المعرفة (١٠٧): "قال علي بن المديني: حدثنا يعلى بن عبيد [يعني: الطنافسي، وهو: ثقة]، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل، قال ابن المديني: فكنت أرى أن هذا من صحيح حديث ابن إسحاق؛ فإذا هو قد دلسه، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، فإذا الحديث مضطرب".
ووصله البيهقي (٥/ ٢٢٩ و ٢٣٠)، وانظر أيضًا: صحيح ابن خزيمة (٢٨٩٧ و ٢٨٩٨)، مستدرك الحاكم (١/ ٤٦٧)، مسند أحمد (١/ ٢٦١ و ٢٧٣)، مشكل الآثار (٤/ ٢٦ و ٢٧)، معجم الطبراني الكبير (١١/ ٩٢/ ١١١٤٨)، سنن البيهقي (٥/ ٢٢٩)، دلائل النبوة (٤/ ١٥٢).
قلت: فلو كانت العنعنةُ وحدها علةً كافيةً لرد حديث ابن إسحاق؛ لما تردد إمام علم العلل في ردِّ هذا الحديث، وجعله من مردود حديث ابن إسحاق، حتَّى يصرح فيه بالسماع، أو على الأقل لكان توقف فيه، حتَّى يتبين له وجه الحديث، والله أعلم.
وقول جرير بن حازم هنا: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن عمرو، صيغة تستعمل كثيرًا في موضع السماع، مثل ما تقدم معنا قريبًا: قال سفيان بن عيينة: فأما أنا فإنما سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور [تقدم برقم (٨١١)، وهو متفق عليه من حديث الزهري، وهذا لفظ البخاري]، ومثل قول شعبة: سمعت قتادة يحدث عن أَنس [عند مسلم برقم (٤٣ و ٤٤ و ٤٥ و ٤٢٥ و ٤٣٣ و ٥٥١ و ٧٩٩ و ١٠٤٧ و ١٠٥٩ و ١٧٠٦ و ٢٠٩٢ و ٢١٦٣)]، وقول المعتمر بن سليمان: سمعت منصورًا يحدث عن الحكم [عند مسلم (١١٩٤)]، وقول ابن عيينة: سمعت الزهري يحدث عن عروة بن الزبير [عند مسلم (١٢٧٧)]، وقول شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو بن ميمون [عند مسلم (١٧٩٤)]، وقول شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر [عند مسلم (٢٤٢٠)]، وقول شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن أبي الأحوص [عند مسلم (٢٦٠٦)]، وغير هذا كثير جدًّا في الصحيحين وغيرهما.
وأما جرير بن حازم فإنه بصري ثقة، من السادسة، وقد يهم على ابن إسحاق قليلًا