فنحن أمام سلسلة يروى بها أحاديث، مثل النسخ الحديثية، وهي مرويات كثير المزني عن أبيه عن جده، ومن ثم فإن النظر فيها يعتمد على استقامة متونها أو نكارتها، وذلك بخلاف تفرد رجل متكلم فيه عن رجل مشهور؛ كتفرد الطائفي عن عمرو بن شعيب، وإن كنت قد قدمت حديث ابن عمرو على حديث عمرو بن عوف، وذلك لاتفاق أكثر النقاد على تضعيف كثير المزني، واللَّه أعلم.
° وكنت كتبت قديمًا بحثًا في الدفاع عن تصحيح الترمذي، وأنه معتمد في الغالب، وأنقل هنا بعضه مما يتعلق بترجمة كثير، وذلك لفائدته:
قال الذهبي في الميزان (٣/ ٤٠٧) في ترجمة كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف: "وأما الترمذي فروى من حديثه: "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه [الجامع (١٣٥٢)، وقال: "حسن صحيح"]؛ فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي".
قلت: تصحيح الترمذي معتمد عند العلماء، وأما تصحيحه لكثير بن عبد اللَّه هذا فمعتمده فيه أنه سأل البخاري عن حديث له فحسنه، قال ابن الملقن في البدر (٦/ ٦٨٨): "على أن الترمذي لم ينفرد بتصحيح حديثه، فقد أخرج له ابن خزيمة في صحيحه حديثًا في زكاة الفطر، وحسن البخاري حديثًا له، قال الترمذي: قلت للبخاري: حديث كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده في الساعة التي ترجى يوم الجمعة؟ قال: حديث حسن"، زاد في التهذيب (٣/ ٤٦٣): "إلا أن أحمد كان يحمل على كثير يضعفه، وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عنه"، وقال عنه الترمذي في الجامع (٤٩٠): "حسن غريب".
قلت: وقال الترمذي في العلل أيضًا (١٥٣): "سألت محمدًا عن هذا الحديث؛ يعني: حديث عبد اللَّه بن نافع، عن كثير بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن جده: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كبر في العيدين، في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة.
فقال: ليس في الباب شيء أصح من هذا، وبه أقول".
فظهر بذلك أن الترمذي اعتمد كلام البخاري عنه في تصحيح حديثه لا سيما ما توبع عليه، فهذا الحديث:"الصلح جائز بين المسلمين" قد ورد من حديث أبي هريرة بإسنادين مدنيين كلاهما إسناد حسن، فالحديث ثابت من غير طريق كثير بن عبد اللَّه المزني، وعلى هذا فالترمذي لم يصحح له منكرًا، وإلا فقد أخرج له في مواضع من جامعه، ولم يصحح له، وإنما حسن له [الجامع (٢٦٣٠ و ٢٦٧٧)]، أو حسن له مع الغرابة [الجامع (٤٩٠)]، وتحسين الترمذي فيه دلالة على ضعف إسناده كما يُفهم ذلك من شرطه في الحسن، ثم إن الغرابة أشد في الضعف، وفي هذا دليل على أنه لم يكن يعتمده، ويحتج به على انفراده، وأنه يعلم أن له مناكير لا يقبل مثلها، واللَّه أعلم.
وعلى هذا فإن البخاري قد نظر -فيما صحح له أو حسن- إلى أنه لم يرو منكرًا، وإنما صحح له ما توبع على أصله، ولذلك فإنه قرن تصحيح حديثه هذا بتصحيح حديث