سكان العوالي وقباء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يقصرون، ولم يكن ذلك يسمى في عرفهم سفرًا [والشواهد على ذلك كثيرة، انظر منها مثلًا: حديث سهل بن سعد الساعدي المتفق عليه، والمتقدم برقم (٩٤١)، وفي بعض ألفاظه: كان قتالٌ بين بني عمرو بن عوف، فبلغ ذلك النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأتاهم ليُصلِحَ بينهم بعد الظهر، وفي بعضها: بلغ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن بني عمرو بن عوف بقُباء كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم في أناس من أصحابه، وفي رواية: فذهب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليصلح بينهم، وفي رواية: فانطلق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم ليصلح بينهم، وفي رواية:"اذهبوا بنا نصلح بينهم"، وليس في شيء منها أنه سافر اليهم، ولا أنه قصر عندهم صلاة العصر]، واللَّه أعلم.
الخامس: نقل ابنُ جرير الطبري في تهذيب الآثار (٢/ ٨٩٧ و ٩١١ - مسند عمر) الإجماعَ على أن قصر الصلاة غير جائز في مثل هذه المسافة بين المدينة وذي الحليفة، وكان مما قال:"مسافةُ ما بين المدينة وذي الحليفة أقل من أربعة فراسخ،. . .، ولا أحد ممن روي عنه قصر الصلاة في قدر ما ذكرتُ يرى جواز قصرها فيما بين المدينة وذي الحليفة، أو في قدر ذلك من المسافة".
وقال الخطابي في المعالم (١/ ٢٦١): "إن ثبت هذا الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حدًا فيما يقصر إليه الصلاة؛ إلا أني لا أعرف أحدًا من الفقهاء يقول به".
قلت: قد ثبت الحديث؛ لكنه محمول على أن الناوي سفرًا تقصر في مثله الصلاة؛ له قصرُ الصلاة إذا خلَّف دور البلدة وراءه، واللَّه أعلم.
• وأما قول ابن عبد البر في يحيى الهنائي:"ليس هو ممن يوثق به في ضبط مثل هذا الأصل" [الاستذكار (٢/ ٢٤٠)، المحرر في الحديث (٤٠١)]، فلا يسلم له لأمور:
أولًا: أن الهنائي روى عنه جماعة من أئمة الحديث مثل: شعبة، وابن علية، وهما بصريان بلديان للهنائي، وأعلم به وبحاله، وفي هذا تقوية له.
ثانيًا: لو كان ما رواه عن أنس منكرًا، لما قال فيه أبو حاتم:"شيخ"، ولما قال فيه ابن معين:"صويلح"، ولما ذكره ابن حبان في ثقاته [التهذيب (٤/ ٤٠٠)، ضعفاء العقيلي (٤/ ٤٣٦)، ولم يورد له العقيلي حديثًا واحدًا انتقده عليه].
ثالثًا: قد صحح حديثه هذا: مسلم، وأبو عوانة، وابن حبان.
رابعًا: هو إسناد بصري، سأل فيه الهنائي أنسًا فأجابه عن سؤاله، ومثل هذا أدعى لضبط الرواية، حيث إنه سأل عما يحتاج اليه، ولم تكن مجرد رواية وقعت له فتحملها، كأن سمع أنسًا يتحدث بذلك، وإنما جاءه الهنائي سائلًا مسترشدًا طالبًا بيان ما أشكل عليه في قصر الصلاة.
خامسًا: أن حديث الهنائي كالمفسر لحديث الثلاثة عن أنس في بيان مقدار المسافة التي يبتدئ المسافر منها قصر الصلاة، واللَّه أعلم.