وأما الأوقات الثلاثة الأخيرة فقد اقترن النهي عن الصلاة فيها بالنهي عن دفن الموتى، مع التغليظ في أسلوب النهي في الوقتين الأخيرين، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتحروا طلوع الشمس، ولا غروبها؛ فتصلوا عند ذلك"[كما في حديث ابن عمر]، ومثل قول عائشة: إنما نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتحرَّى طلوعُ الشمس، وغروبها.
ويظهر من خلال هذا العرض أن أشد الأوقات نهيًا عن الصلاة فيها، هما وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها؛ حيث علل بعلتين: الأولى: أنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، والثانية: أنها حينئذٍ يسجد لها الكفار، ولا شك أن هذا التحريم لهو أشد وأغلظ من غيره، حيث اقترن بسد ذريعة مشابهة الكفار في عبادتهم للشمس، ولكون الشيطان يقترن بها في هذين الوقتين حتى يُعبد بعبادتهم للشمس؛ عندئذ يظهر بجلاء المعنى المراد في أمر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تؤخر الصلاة حين طلوع الشمس حتى ترتفع، وحين غروبها حتى تغيب، ففي حديث ابن عمر مرفوعًا:"إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب"[وهو متفق عليه، وهذا لفظ البخاري]، ولما كان الوقت السابق على هذين الوقتين هو وقت نهي أيضًا، نهي عن الصلاة فيه، فليس هو موضع للتنفل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاةَ بَعدَ صلاةِ الصبح حتى تَطلُعَ الشمسُ، ولا صَلاةَ بَعدَ صلاة العصرِ حتى تَغْرُبَ الشمسُ"، [قال ابن الملقن في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (٢/ ٣١٠)، وفي التوضيح (٦/ ٢٦٠): "أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في أوقات النهي، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"أما التطوع الذي لا سبب له: فهو منهي عنه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس؛ باتفاق الأئمة، وكان عمر بن الخطاب يضرب من يصلي بعد العصر، فمن فعل ذلك فإنه يعزَّر؛ اتباعًا لما سنَّه عمر بن الخطاب أحد الخلفاء الراشدين، إذ قد تواترت الأحاديث عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك"، مجموع الفتاوى (٢٣/ ٢١٨)]، وإنّما تجوز فيه صلاة الفريضة لمن أخرها لعذر كنوم ونسيان ونحو ذلك كما سبق بيانه، أو الصلوات ذوات الأسباب، ويؤكد ذلك لام التعريف في الصلاة، وهي لام العهد، فأي صلاة معهودة أمر الصحابة بتأخيرها، وهل عهد عن الصحابة صلاة النوافل المطلقة في هذا الوقت حتى ينهوا عنها؟! وعلى فرض أنها لام الاستغراق فهو يؤيد قولنا أيضًا، وعلى هذا فإن الخطاب في حديث ابن عمر هذا لا يتوجه حينئذ ليصلي النافلة المطلقة، بل لمن صلى صلاة لها سبب كركعتي الطواف أو سنة الوضوء أو تحية المسجد مثلًا، أو لمن أخر الفريضة لعذر؛ فإذا كان عذره قد زال قبل الطلوع أو الغروب بركعة جاز له أن يشرع في الصلاة ويستديمها أثناء الطلوع أو الغروب، للدليل السابق ذكره، ولأنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء، ولأن ابتداء الصلاة قبل شروق الشمس وقبل غروبها قد خالف فعل الكفار، فتباينت الأفعال واختلفت؛ كذلك فإن الشرع قد جاء بتشريع ابتداء الصلاة قبل الشروق والغروب ولو بركعة، ولم يشرع ذلك