تلك الصلاة في بعض الليالي، بذلك العدد، وبتلك الصفة، وهذا الاختلاف من جنس المباح، فجائز للمرء أن يصلي أيَّ عددٍ أحبَّ من الصلاة مما روي عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه صلاهنَّ، وعلى الصفة التي رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلاها، لا حظر على أحد في شي منها".
وحكاه ابن المنذر في الأوسط (٥/ ١٥٩) باختصار وشيء من التصرف مقراً به، ثم بوب بعد ذلك (٥/ ١٧٥) على الوتر بواحدة، وبخمس متصلة بسلام واحد، وبسبع وتسع مع بيان صفة الجلوس، واحتج في ذلك بحديث هشام بن عروة، وبحديث سعد بن هشام.
ثم صرح بثبوت ذلك، فقال في الأوسط (٥/ ١٨٧): "وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن، وأوتر بسبع، وثبت أنه أوتر بتسع لا يقعد فيهن إلا عند الثامنة، ثم قعد في التاسعة، فبأي فعلٍ مما جاء به الحديث من أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوتر فعله رجل فقد أصاب السُّنَّة، غير أن الأكثر من الأخبار والأعم منها أنه سئل عن صلاة الليل، فقال:"مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة"، ... " [وانظر أيضًا: الأوسط (٥/ ١٨٥)].
وقال البيهقي في المعرفة (٢/ ٣١٧): " ... ، ونحن نقول به، ونجيز الوتر على هذه الأوجه، وعلى كل وجه صح الخبر به عن سيدنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، لا ندع منها شيئًا بحالٍ بحمد الله ومنِّه وحسن توفيقه".
وقال أيضًا (٢/ ٣١٨): "هذا هو الطريق عند أهل العلم في أحاديث الثقات أن يؤخذ بجميعها إذا أمكن الأخذ به.
ووتر النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في عمره مرة واحدة، حتى إذا اختلفت الروايات في كيفيتها كانت متضادة، والأشبه أنه كان يفعلها على ممر الأوقات على الوجوه التي رواها هؤلاء الثقات، فنأخذ بالجميع كما قال الشافعي -رحمة الله-، ونختار ما وصفنا في رواية الزهري عن عروة عن عائشة، لفضل حفظ الزهري على حفظ غيره، ولموافقته رواية القاسم بن محمد عن عائشة، ورواية الجمهور عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبهذا النوع من الترجيح ترك البخاري رواية هشام بن عروة في الوتر، ورواية سعد بن هشام عن عائشة في الوتر، فلم يخرج واحدة منهما في الصحيح مع كونهما من شرطه في سائر الروايات"، ثم أسند إلى ابن معين قوله: "الزهري أثبت في عروة من هشام بن عروة في عروة"، ثم قال: "وعلى هذا سائر أهل العلم بالحديث، فأما من زعم أن رواية عروة في هذا قد اضطربت، فأدعها، وأرجع إلى رواية من رواها مطلقة ليس فيها من التفسير ما في رواية عروة، ليمكنني تصحيحها على مذهبي، أو إلى رواية من لعله لم يدخل على عائشة إلا مرة واحدة، ولم يسمع منها وراء الحجاب إلا مرة، فإنه لا ينظر في استعمال الأخبار لدينه، ولا يحتاط فيها لنفسه، والله يوفقنا لمتابعة السُّنَّة، وترك الهوى برحمته" [وانظر: الخلافيات (٣/ ٣٣١)].