كذلك فإن حديثنا هذا قد أخرجه مسلم مصححًا إياه، معتمدًا رواية أبي أسامة عن الأعمش في إثبات سماعه من أبي صالح، بينما نجد في حديث: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" أنه قد أعرض عنه صاحبا الصحيح، وقد تواردت أقوال الأئمة النقاد على رده وإعلاله، حتى قال فيه ابن المديني: "لا يصح في هذا الباب عن النبي -صلي الله عليه وسلم- حديث صحيح، إلا حديثًا رواه الحسن مرسلًا" [راجع: فضل الرحيم الودود (٦/ ١٠٥/ ٥١٨)].
فلا مقارنة حينئذ بين الحديثين، واختلاف صنيعي فيهما، والله الموفق للصواب.
° وألخص حجتي في تقديم رواية أبي أسامة بإثبات سماع الأعمش من أبي صالح على رواية أسباط المنقطعة بما يلي:
أولًا: أنه قد اختلف فيه على أسباط.
ثانيًا: أن رواية أبي أسامة بإثبات السماع، ورواية أسباط بنفي السماع، ويقدَّم المثبت على النافي.
ثالثًا: أن أبا أسامة أحفظ وأضبط من أسباط، وأقل منه وهمًا في حديث الأعمش، بينما حُفظ عن أسباط أوهام كثيرة عن الأعمش، وهذا منها.
رابعًا: أن أبا أسامة قد توبع على أصل روايته بعدم إثبات واسطة بين الأعمش وأبي صالح، بينما لم يتابع أسباط على قوله بإثبات واسطة.
خامسًا: أن حديثنا هذا لم يختلف في إسناده على الأعمش اختلافًا يشعر بعدم سماعه من أبي صالح، سوى رواية أسباط، بخلاف حديث: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن".
فإن قيل: ألا تقدَّم دائمًا الرواية التي تبين وقوع التدليس من المدلِّس على الرواية المدلَّسة؟ فيقال: بلى؛ لكنا هنا أمام اختلاف في الاتصال والانقطاع بين رجلين؛ أحدهما من أثبت الناس وأحفظهم وأضبطهم للحديث وصيغ الإخبار فيه، وهو أبو أسامة، والآخر ممن خف ضبطه، وكثر وهمه على الأعمش، وهو أسباط بن محمد، فنرجح بينهما كما تقدم، والله أعلم.
بخلاف ما لو روى مثلًا:
سفيان الثوري، وشعبة، وأبو معاوية، وسفيان بن عيينة، وأبو الأحوص، وزائدة بن قدامة، وأبو عوانة، وعيسى بن يونس، وجرير بن عبد الحميد، وحفص بن غياث، وفضيل بن عياض، والحسن بن صالح، ومحمد بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي، وغيرهم من أصحاب الأعمش: عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. هكذا بالعنعنة.
ثم رواه واحد من ثقات أصحاب الأعمش، مثل: محمد بن فضيل: ثنا الأعمش، عن رجل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. هكذا بإثبات واسطة بينهما.
فحينئذٍ لا نرجح بالأكثر والأحفظ، وإنما يقال بأن الأعمش قد دلس الحديث حين حدث به الجماعة، ثم بين أنه لم يسمعه من شيخه في رواية أحد ثقات أصحابه، فأفسد بذلك الحديث على الجماعة.