للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وإنما هي أوجه تتفق معانيها وتتسع ضروب الألفاظ فيها؛ إلا أنه ليس منها ما يحيل معنى إلى ضده كالرحمة بالعذاب وشبهه ".

قلت: وابن عبد البر ومن كان معه، ممن لا يرى كون الأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب؛ إلا أنهم يرون أنها معانٍ متفقة بألفاظ مختلفة، فإن هذين القولين يقودان لنفس المعنى الذي قال به الجمهور، وهو أن مصحف عثمان منع من القراءة بما هو مغاير له في الخط من الأحرف السبعة؛ لا أن مصحف عثمان قد اشتمل على جميع الأحرف السبعة، ولم يجاوز منها شيئًا.

ثم ضرب ابن عبد البر على ذلك مثالًا، فقال (٨/ ٢٩١): "وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب؛ أنه كان يقرأ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: ١٣]؛ للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخِّرونا، للذين آمنوا ارقبونا، وبهذا الإسناد عن أبي بن كعب؛ أنه كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: ٢٠]؛ مروا فيه، سعوا فيه.

كل هذه الأحرف كان يقرؤها أبي بن كعب، فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث، والله أعلم؛ إلا أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد، وعلى هذا أهل العلم؛ فاعلم".

قلت: ومن ذلك أيضًا ما يتعلق بالحذف والإثبات، والزيادة والنقصان.

ولعل ما ذهب إليه ابن عطية في المحرر الوجيز (١/ ١٧٤) يعطي هذا المعنى الذي ذهبنا إليه قوة في الجمع بين هذين القولين، من جهة أن المراد باللغات استعمالات العرب وقبائلها مع وجود التداخل بينهم في هذه الاستعمالات أحيانًا، فقال: "فمعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، أي: فيه عبارات سبع قبائل؛ بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرةً بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة".

واختار ابن عطية قبائل وسط الجزيرة دون أطرافها ممن تأثر بمجاورة العجم، مثل: قريش، وبني سعد، وكنانة، وهذيل، وثقيف، وخزاعة، وأسد، وضبة، وتميم، وقيس، ومن نحا نحوهم من قبائل وسط الجزيرة دون أطرافها.

وقال ابن عطية (١/ ١٧٦): "فأباح الله تعالى لنبيه هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل في عرضاته، على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف، ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام: "فاقرؤوا ما تيسر منه" بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرَّضًا أن يبدِّل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله، وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليوسع بها على أمته، فقرأ مرة لأبيّ بما عارضه به جبريل صلوات الله عليهما، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضًا. وفي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف".

<<  <  ج: ص:  >  >>