وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في قراءة كل منهما -وقد اختلفتا-: "هكذا أقرأني جبريل "، هل ذلك إلا لأنه أقرأه بهذه مرة وبهذه مرة".
وقال ابن الجوزي في فنون الأفنان (٢١٧): "نزل القرآن على سبع لغات فصيحة من لغات العرب. وقد كان بعض مشايخنا يقول: كله بلغة قريش، وهي تشتمل على أصول من القبائل هم أرباب الفصاحة، وما يخرج عن لغة قريش في الأصل لم يخرج عن لغتها في الاختيار".
قلت: يعني: أن قريشًا، والذي نزل القرآن بلغتها في الأصل، كان عندها علم وإلمام بلغات بعض القبائل من العرب، واستعمال لبعض مفرداتها وعباراتها، لقرب الدار منها أولًا، وثانيًا لكثرة ورودهم عليهم في الحج والعمرة، فكانوا يسمعونهم، ويخاطبونهم، فيعرفون بعض لغاتهم، وقد يقع الاستعمال لبعض ذلك بينهم، وعلى هذا فإن ما أقرأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- عمر وهشام بن حكيم من لغات العرب، وإن كانا قرشيين، إلا أنهما يعرفانه ولا ينكرانه، والقليل منه قد يغيب عنهما علمه، حتى يقفا عليه من كلام أهل القبائل، كما وقع لبعض الصحابة، في عدم معرفة معاني بعض العبارات حتى أوقفهم عليها أهل اللسان، مثل ما وقع لعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، والله أعلم.
كذلك فإن قريشًا كانت تسترضع أولادها في قبائل العرب والبادية، كما استرضع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بني سعد بن بكر بن هوازن، ونشأ فيهم حتى سمع وتعلم شيئًا من لغتهم، يضاف إلى ذلك أيضًا اجتماع قبائل العرب وشعرائهم في أسواقهم المشهورة مثل عكاظ ومجنة وذي المجاز، ومن ثم فإنه لم يكن يخفى على قريش لسان بعض القبائل لهذه الأسباب المذكورة، وبعد هذا التقرير تتضح الصورة وتنجلي في فهم المراد من الأحرف السبعة بمعناها الواسع، والذي يجمع بين القولين المشهورين في هذه المسألة، والله أعلم.
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل (١/ ٨٠): "والذي نختاره أن المراد بالحرف اللغة، فالقرآن أنزل على سبع لغات فصيحة من لغات العرب، فبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وغيرهم من الفصحاء.
وقد يشكل على بعض الناس فيقول: هل كان جبريل يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات؛ فيقال له: إنما يلزم هذا إذا قلنا إن السبعة الأحرف تجتمع في حرف واحد، ونحن قلنا: إن السبعة الأحرف تفرقت في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة غيرهم، ولو قلنا: إنها اجتمعت في الحرف الواحد قلنا: كان جبريل يأتي في كل عرضة بحرف إلى أن تمت سبعة أحرف".
وقد استدل كثير من المصنفين في هذا الباب بآثار لا يثبت أكثرها، لذا أعرضت عن ذكرها، والاستدلال بها، لعدم ورودها بأسانيد صحيحة، والله أعلم.
وانظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (٢٩)، شرح المشكل للطحاوي (٨/ ١١٦)، تهذيب اللغة (٥/ ١١)، الحجة للقراء السبعة (٥ - المقدمة)، الإبانة لابن بطة (٢/ ٦١٤)،