المصحف وجمعه، مما يدل على اتفاق الصحابة على أن زيدًا كان أقرأ القوم، فإن كان كذلك فلا تخفى عليه العرضة الأخيرة؛ بل قيل: إنه هو الذي كتبها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو أشهر كتاب الوحي، وأهل المدينة يسمونه: كاتب الوحي، وهو الذي قال له أبو بكر الصديق: "إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه" [أخرجه البخاري (٤٦٧٩ و ٤٩٨٦ و ٧١٩١)]، ويشهد له:
ما رواه ثابت البناني، وثمامة، عن أنس بن مالك، قال: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قال: ونحن ورثناه. [أخرجه البخاري (٥٠٠٤)].
وما رواه قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: جمع القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة، كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت. قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. [أخرجه البخاري (٣٨١٠ و ٥٠٠٣]، ومسلم (٢٤٦٥)].
قال البغوي في شرح السُّنَّة (٤/ ٥٢٥): "وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إمامًا.
ويقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على جبريل، وهي التي بين فيها ما نسخ وما بقي.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام الذي توفاه اللّه فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف - رضي الله عنهم - أجمعين".
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (٤/ ٤١٨): "والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف، أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره".
قلت: وهذا القول عندي أشبه بالصواب، أن العرضة الأخيرة هي فراءة زيد بن ثابت، وهي المثبتة في مصحف عثمان الذي كتبه زيد، واللّه أعلم.
وهناك من جمع بين القولين، حيث قال ابن حجر في الفتح (٩/ ٤٥): "ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين، فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما".
وقد تأول الطحاوي حديث ابن عباس؛ فقد ترجم له بقوله: "باب بيان مشكل ما