من المعاش، وبسطنا لهم من الرزق، حتى بَطِرُوا وعَتوْا على ربهم، وكفروا، ومنه قول الراجز:
وَقَدْ أُرَانِي بِالدِّيَارِ مُتْرَفا (١)
وقوله:(مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يقول: قالوا: بعث الله صالحا إلينا رسولا من بيننا، وخصه بالرسالة دوننا، وهو إنسان مثلنا، يأكل مما نأكل منه من الطعام، ويشرب مما نشرب، وكيف لم يرسل ملكا من عنده يبلغنا رسالته، قال:(وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) معناه: مما تشربون منه، فحذف من الكلام "منه"؛ لأن معنى الكلام: ويشرب من شرابكم، وذلك أن العرب تقول: شربت من شرابك.
يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل الملأ من قوم صالح لقومهم:(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ) فاتبعتموه، وقبلتم ما يقول وصدّقتموه. (إِنَّكُمْ) أيها القوم (إِذًا لَخَاسِرُونَ) يقول: قالوا: إنكم إذن لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة في الدنيا، باتباعكم إياه.
قوله:(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا) الآية، يقول تعالى ذكره: قالوا لهم: أيعدكم صالح أنكم إذا متم وكنتم ترابًا في قبوركم، وعظاما قد ذهبت لحوم أجسادكم، وبقيت عظامها - أنكم مخرجون من قبوركم أحياء، كما كنتم قبل مماتكم؟ وأعيدت (أنكم) مرّتين، والمعنى: أيعدكم أنكم إذا متم، وكنتم ترابًا وعظامًا - مخرجون مرة واحدة، لما فرق بين (أنكم) الأولى، وبين خبرها بإذا، وكذلك تفعل العرب بكل اسم أوقعت عليه الظنّ وأخواته، ثم اعترضت بالجزاء دون خبره، فتكرّر اسمه مرّة وتحذفه أخرى، فتقول: أظن أنك إن جالستنا أنك محسن، فإن حذفت أنك الأولى أو الثانية صلح، وإن أثبتهما صلح، وإن لم تعترض بينهما بشيء لم يجز خطأ أن يقال: أظنّ أنك أنك جالس، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله:(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ) .
(١) البيت للعجاج (أراجيز العرب للسيد محمد توفيق البكري ص ١٩) قال في شرحه له: وقد أراني أي قد كنت أرني. والمترف من الترف، وهو النعيم والرفه. وفي (اللسان: ترف) : والمترف: المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهوتها. ورجل مترف، ومترف كمعظم: موسع عليه. وترف الرجل وأترفه: دلّله وملكه. وقوله تعالى {إلا قال مترفوها} : أي أولوا الترف وأراد رؤساءها وقادة الشر منها.