للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القول في تأويل قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ودّت"، تمنت = (١) "طائفة"، يعني جماعة ="من أهل الكتاب"، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى ="لو يضلُّونكم"، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.

* * *

و"الإضلال" في هذا الموضع، الإهلاكُ، (٢) من قول الله عز وجل: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة السجدة: ١٠] ، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير:

كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا (٣)

يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان:

فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ (٤)

يعني مهلكوه.

* * *


(١) انظر تفسير"ود" فيما سلف ٢: ٤٧٠ / ٥: ٥٤٢.
(٢) انظر تفسير"ضل" فيما سلف ١: ١٩٥ / ٢: ٤٩٥، ٤٩٦.
(٣) مضى تخريجه وشرحه في ٢: ٤٩٦.
(٤) ديوانه: ٨٣، واللسان (ضلل) (جلا) ، من قصيدته الغالية في رثاء أبي حجر النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وقبل البيت: فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتَ غَيْرَ مُذَمَّمٍ ... أَوَاسِيَ مُلْكٍ ثبَّتَتْهُ الأَوَائِلُ
فَلاَ تَبْعَدَنْ، إِنْ المَنَّيَة مَوْعِدٌ، ... وَكُلُّ امْرِئ يَوْمًا به الحَالُ زَائِلُ
فمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر، لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو حُجُرٍ، إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
فَإِنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حَيَاتِي، وَإنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طائِل
فَآبَ مُضِلُّوهُ. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية الأصمعي وأبي عبيدة: "فآب مصلوه" بالصاد المهملة. وفسرها الأصمعي فقال: "أراد: قدم أول قادم بخبر موته، ولم يتبينوه ولم يحققوه ولم يصدقوه، ثم جاء المصلون، وهم الذين جاءوا بعد الخبر الأول، وقد جاءوا على أثره، وأخبروا بما أخبر به، بعين جلية: أي بخبر متواتر صادق يؤكد موته، ويصدق الخبر الأول. وإنما أخذه من السابق والمصلي (من الخيل) " وقال أبو عبيدة: "مصلوه: يعني أصحاب الصلاة، وهم الرهبان وأهل الدين منهم".
والذي قاله الأصمعي غريب جدًا، وأنا أرفضه لبعده وشدة غرابته، واحتياله الذي لا يغني، ولو قال: "مصلوه"، هم مشيعوه الذين سوف يتبعون آثاره عما قليل إلى الغاية التي انتهى إليها، وهي اللحد - لكان أجود وأعرق في العربية!! ولكن هكذا تذهب المذاهب أحيانًا بأئمة العلم. والذي قال أبو عبيدة، على ضعفه، أجود مما قاله الأصمعي، وأنا أختار الرواية التي رواها الطبري، ولها تفسيران: أحدهما الذي قاله الطبري، وهو يقتضي أن يكون النعمان مات مقتولا، ولم أجد خبرًا يؤيد ذلك، فإنه غير ممكن أن يكون تفسيره"مهلكوه"، إلا على هذا المعنى، والآخر: "مضلوه" أي: دافنوه الذي أضلوه في الأرض: أي دفنوه وغيبوه، وهو المشهور في كلامهم، كقول المخبل: أَضَلَّتْ بَنْو قيْسِ بن سَعْدٍ عَمِيدَهَا ... وفَارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بنَ عاصِمِ
فمعنى قول النابغة: كذب الناس خبر موت النعمان أول ما جاء، فلما جاء دافنوه بخبر ما عاينوه، صدقوا الخبر الأول. هذا أجود ما يقال في معنى البيت. و"الجولان" جبل في نواحي دمشق، من عمل حوران. وتبين من شعر النابغة أنه كانت به منازل النعمان وقصوره ودوره.

<<  <  ج: ص:  >  >>