وجه في الصحة، صحّ المعنى الآخر، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك. وذلك أنه يُحكى عن العرب: ما أَفْرطت ورائي أحدًا: أي ما خَلَّفته؛ وما فرطته: أي لم أخلفه.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المِصرَينِ الكوفة والبصرة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) بتخفيف الراء وفتحها، على معنى ما لم يُسَمّ فاعله من أُفرِط فهو مُفْرَط. وقد بيَّنت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل. وقرأه أبو جعفر القارئ. "وأنَّهُم مُفَرِّطُونَ" بكسر الراء وتشديدها، بتأويل: أنهم مفرِّطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا، من طاعته وحقوقه، مضيعو ذلك، من قول الله تعالى (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) وقرأ نافع بن أبي نعيم: "وأنَّهُم مُفْرِطُونَ" بكسر الراء وتخفيفها.
حدثني بذلك يونس، عن وَرْش عنه، بتأويل: أنهم مُفْرِطُونَ في الذنوب والمعاصي، مُسْرِفون على أنفسهم مكثرون منها، من قولهم: أَفْرط فلان في القول: إذا تجاوز حَدَّه، وأسرف فيه.
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم.
يقول تعالى ذكره مقسِما بنفسه عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك إلى أمتك من الدعاء إلى التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والإذعان له بالطاعة، وخلع الأنداد والآلهة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فحسَّن لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان مقيمين، حتى كذّبوا رسلهم، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند ربهم (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يقول: فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا، وبئس الناصر (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة عند ورودهم على ربهم، فلا ينفعهم حينئذ ولاية الشيطان، ولا هي نفعتهم في الدنيا، بل ضرّتهم فيها