قوله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) لم يعن بها واحد بعينه، وأنه مراد بها جِمَاع ذلك صفتهم، ولكنها أخرجت بلفظ الواحد، إذ لم تكن موقتة. وقد زعم بعض أهل العربية من البصريين، أن"الذي"في هذا الموضع جُعل في معنى جماعة بمنزلة"مَن". ومما يؤيد ما قلنا أيضا قوله:(أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فجعل الخبر عن"الذي"جماعا، لأنها في معنى جماع. وأما الذين قالوا: عني بقوله: (وَصَدَّقَ بِهِ) : غير الذي جاء بالصدق، فقول بعيد من المفهوم، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان التنزيل: والذي جاء بالصدق، والذي صدق به أولئك هم المتقون، فكانت تكون"الذي" مكررة مع التصديق، ليكون المصدق غير المصدق، فأما إذا لم يكرّر، فإن المفهوم من الكلام، أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق، لا وجه للكلام غير ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت"الذي"في معنى الجماع بما قد بيَّنا، كان الصواب من القول في تأويله ما بيَّنا.
وقوله:(أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم. هم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد، وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فخافوا عقابه.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يقول: اتقوا الشرك.
وقوله:(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة، ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم (ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم، جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها، وائتمر لأمره، وانتهى عما نهاه فيها عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) }
يقول تعالى ذكره: وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم، كي يكفر