وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا:(مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ) وجواب لهم عنه يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق، وأنت لله رسول، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كالذي تأكل أنت وتمشي، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة.
فان قال قائل: فإن (من) ليست في التلاوة، فكيف قلت: معنى الكلام: إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك: معناه: أن الهاء والميم في قوله: إنهم، كناية أسماء لم تذكر، ولا بد لها من أن تعود على من كُني عنه بها، وإنما ترك ذكر"من" وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله: (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عليه، كما اكتفي في قوله:(وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) من إظهار"من"، ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلا من له مقام معلوم، كما قيل (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ومعناه: وإن منكم إلا من هو واردها، فقوله:(إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) صلة لمن المتروك، كما يقال في الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة، فإنه ليبلغك الرسالة، صلة لمن.
وقوله:(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) يقول تعالى ذكره: وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنيّ، والملك بصبره على ما