وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله ابن عباس، من أنه سبقت لهم من الله السعادة قبل مسارعتهم في الخيرات، ولما سبق لهم من ذلك سارعوا فيها.
وإنما قلت ذلك أولى التأويلين بالكلام; لأن ذلك أظهر معنييه، وأنه لا حاجة بنا إذا وجهنا تأويل الكلام إلى ذلك، إلى تحويل معنى "اللام" التي في قوله: (لَهَا سَابِقُونَ) إلى غير معناها الأغلب عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) }
يقول تعالى ذكره: ولا نكلف نفسا إلا ما يسعَها ويصلح لها من العبادة; ولذلك كلَّفناها ما كلفناها من معرفة وحدانية الله، وشرعنا لها ما شرعنا من الشرائع.
(وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) يقول: وعندنا كتاب أعمال الخلق بما عملوا من خير وشرّ، ينطق بالحقّ (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يقول: يبين بالصدق عما عملوا من عمل في الدنيا، لا زيادة عليه ولا نقصان، ونحن موفو جميعهم أجورهم، المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يقول: وهم لا يظلمون، بأن يزاد على سيئات المسيء منهم ما لم يعمله فيعاقب على غير جُرْمه، وينقص المحسن عما عمل من إحسانه فينقص عَمَّا له من الثواب.
يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يحسب هؤلاء المشركون، من أن إمدادناهم بما نمدّهم به من مال وبنين، بخير نسوقه بذلك إليهم والرضا منا عنهم، ولكن قلوبهم في غمرة عمى عن هذا القرآن. وعنى بالغمرة: ما غمر قلوبهم فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من المواعظ والعبر والحجج. وعنى بقوله:(مِنْ هَذَا) من القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِي غَمْرَةٍ