ثم حوّلت بعض ضماتها إلى الكسر، فقيل: عتيًا، فهو مذهب، وإلا فلا أعرف لصحة قراءتهم ذلك كذلك وجها، وذلك أنه لا يُعرف في كلام العرب فعيل، وقد كان بعض أهل العربية يقول: هو لحن.
والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ (دُرِّيٌّ) بضمّ داله، وترك همزه، على النسبة إلى الدرّ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل، ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحتها بغيره، فتأويل الكلام: الزجاجة: وهي صدر المؤمن، كأنها: يعني كأن الزجاجة وذلك مثل لصدر المؤمن، كوكب: يقول في صفائها وضيائها وحسنها. وإنما يصف صدره بالنقاء من كلّ ريب وشكّ في أسباب الإيمان بالله وبعده من دنس المعاصي، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ في الصفاء والضياء والحسن.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله:"تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" فقرأ ذلك بعض المكيين والمدنيين وبعض البصريين: "تَوَقَّدُ مِنْ شَجَرَةٍ" بالتاء وفتحها وتشديد القاف وفتح الدال، وكأنهم وجهوا معنى ذلك إلى توقد المصباح من شجرة مباركة. وقرأه بعض عامة قرّاء المدنيين (يُوقَدُ) بالياء وتخفيف القاف ورفع الدال، بمعنى: يوقد المصباح، موقده من شجرة، ثم لم يسمّ فاعله. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة "تُوقَدُ" بضم التاء وتخفيف القاف ورفع الدال، بمعنى: يوقد الزجاجة موقدها من شجرة مباركة (١) لما لم يسمّ فاعله، فقيل: توقد. وقرأه بعض أهل مكة "تَوَقَّدُ" بفتح التاء وتشديد القاف وضم الدال، بمعنى: تتوقد الزجاجة من شجرة، ثم أسقطت إحدى التاءين اكتفاء بالباقية من الذاهبة، وهذه القراءات متقاربات المعاني وإن اختلفت الألفاظ بها، وذلك أن الزجاجة إذا وصفت بالتوقد، أو بأنها تَوَقَّد، فمعلوم معنى ذلك، فإن المراد به تَوَقَّدَ فيها المصباح، أو يوقد فيها المصباح، ولكن وجَّهوا الخبر إلى أن وصفها بذلك أقرب في الكلام منها، وفهم السامعين معناه. والمراد منه، فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءات قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءات إليّ أن أقرأ بها في ذلك "تَوَقَّدَ" بفتح التاء، وتشديد القاف وفتح الدال، بمعنى وصف المصباح بالتوقد; لأن التوقد والاتقاد لا شكّ أنهما من صفته دون الزجاجة،
(١) لعل هنا سقطا في العبارة، تقديره: " ثم بنى" كما يفهم من السياق.