للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكانَ لله جلَّ ذكره أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها، خَصَّ بها نفسه دونهم، وذلك مثلُ "الله" و "الرحمن" و "الخالق"؛ وأسماءٌ أباحَ لهم أن يُسمِّيَ بعضهم بعضًا بها، وذلك: كالرحيم والسميع والبصير والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء - كان الواجب أن تقدَّم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامعُ ذلك مَنْ تَوجَّه إليه الحمد والتمجيدُ، ثم يُتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجَّه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو "الله"، لأن الألوهية ليست لغيره جلّ ثناؤه من وجهٍ من الوجوه، لا من جهة التسمِّي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينَّا أن معنى "الله" تعالى ذكره المعبود (١) ، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي، وبحسَنٍ وهو قبيح.

أوَلا تَرى أنّ الله جلّ جلاله قال في غير آية من كتابه: (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) فاستكبر ذلك من المقرِّ به، وقال تعالى في خُصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [سورة الإسراء: ١١٠] . ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه. وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو "الله".

وأما اسمه الذي هو"الرحيم" فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصفنا - واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنّ توابعُها، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو "الله"، على اسمه الذي هو "الرحمن"، واسمه الذي هو "الرحمن" على اسمه الذي هو "الرحيم". (٢)

وقد كان الحسنُ البصريّ يقول في "الرحمن" مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي مَنَعَ التسميَ بها العبادَ. (٣)

١٥٠ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: "الرحمن" اسمٌ ممنوع. (٤)

مع أن في إجماع الأمة من منع التسمِّي به جميعَ الناس، ما يُغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.


(١) في المطبوعة: "أن معنى الله هو المعبود".
(٢) هذا الاحتجاج من أجود ما قيل، ودقته تدل على حسن نظر أبي جعفر فيما يعرض له. وتفسيره كله شاهد على ذلك. رحمة الله عليه.
(٣) غيروه في المطبوعة: "لعباده".
(٤) الأثر ١٥٠- نقله ابن كثير في التفسير ١: ٤١- ٤٢ عن هذا الموضع. والسيوطي في الدر المنثور ١: ٩، ونسبه للطبري وحده. و "عوف" الراويه عن الحسن: هو عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بابن الأعرابي، وهو ثقة ثبت.

<<  <  ج: ص:  >  >>