للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: وذكر الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (١)

وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى:" لا إثم عليه إلى عام قابل"، فلا وجه لتحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة مستقبَلة، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنزيل، ولا على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، بل دلالةُ ظاهر التنزيل تُبين عن أن المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال.

والخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بأنه بانقضاء حجه على ما أمر به، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك = من دلالة ظاهر التنزيل، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم= دلالة واضحة على فساد قول من قال: معنى قوله:" فلا إثم عليه"، فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل.

* * *

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: ما الجالب"اللام" في قوله:" لمن أتقى"؟ وما معناها؟

قيل: الجالبُ لها معنى قوله:" فلا إثم عليه". لأن في قوله:" فلا إثم عليه" معنى: حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه، فترك ذكر" جعلنا تكفير الذنوب"، اكتفاء بدلالة قوله:" فلا إثم عليه".

وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر، فقال:" لمن اتقى" أي: هذا لمن اتقى. وأنكرَ بعضُهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، (٢) لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة" قول" متروك، فكان معنى الكلام عنده" قلنا": (٣) " ومن تأخر فلا


(١) الحديث: ٣٩٦٠ - هناد بن السري الدارمي: مضت ترجمته: ٢٠٥٨. وقد نسب هنا حنظليا كما نسبه البخاري في الكبير. وكلاهما صحيح فهو من بني"دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم". انظر جمهرة ابن حزم ص: ٢١١، ٢١٧.
حجاج: هو ابن أرطأة وهو ثقة على الراجح عندنا كما ذكرنا في: ٢٢٩٩.
وقد روى الحجاج هذا الحديث بإسنادين: فرواه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة، وهي بنت عبد الرحمن -وهي خالة أبي بكر بن حزم- عن عائشة وذكر لفظ الحديث. ثم رواه عن الزهري عن عمرة عن عائشة"مثله". فلم يذكر لفظه. وهذا من تحري الحجاج بن أرطأة ودققه كما سيبين مما يجيء.
فالحديث -من رواية أبي بكر بن حزم- رواه أحمد في المسند ٦: ١٤٣ (حلبي) عن يزيد ابن هارون عن الحجاج بهذا الإسناد نحوه. ولكن ليس فيه كلمة"وذبحتم". وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٣٦ من طريق مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون، ثم قال: "ورواه محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن هارون فزاد فيه: وذبحتم فقد حل لكم كل شيء، الطيب والثياب إلا النساء". ثم ذكر البيهقي إسناده به إلى محمد بن أبي بكر. ثم أعله البيهقي وسنذكر ما قال والجواب عنه، إن شاء الله.
وقد سها السيوطي، حين ذكر هذا الحديث في زوائد الجامع الصغير (١: ١١٧ من الفتح الكبير) فنسبه لصحيح مسلم -مع البيهقي) وهذا خطأ يقينا، فإنه ليس في صحيح مسلم.
وأما من رواية الحجاج عن الزهري: فرواه أبو داود في السنن: ١٩٧٨ عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء". ثم أعله أبو داود فقال: "هذا حديث ضعيف. والحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه". وهذا تعليل جيد من أبي داود فقد روى ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل ص: ١٨ بإسناده عن هشيم قال: "قال لي الحجاج بن أرطأة: سمعت من الزهري؟ قلت: نعم قال: لكني لم أسمع منه شيئًا".
وأما البيهقي فإنه أعلى رواية الحجاج عن أبي بكر بن حزم تعليلا لا أراه مستقيما. قال عقب روايته: "وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطأة وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه سائر الناس عن عائشة". ثم ذكر حديثها قالت: "طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يفيض -بأطيب ما وجدت من الطيب". وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وما نرى إعلال ذاك بهذا هذا حديث فعلي، من حكاية عائشة وذاك حديث قولي من روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما مؤيد لصحة الآخر، فأتى يستقيم التعليل؟
وقد ورد نحو هذا الحديث أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعا: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". رواه أحمد في المسند: ٢٠٩٠، ٣٢٠٤، ٣٤٩١. ولكنه بإسناد منقطع لأنه من رواية الحسن العرني عن ابن عباس. وهو لم يسمع من ابن عباس كما قال البخاري في الصغير ص ١٣٦. ولكنه يصلح على كل حال شاهدا لهذا الحديث.
(٢) الصفة: هي حرف الجر وهي حروف الصفات وانظر ما سلف ١: ٢٩٩ تعليق: ١ ثم ٣: ٤٧٥ تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة: "فكان معنى الكلام عنده"ما قلنا" بزيادة"ما" وهو خطأ بين بدل عليه سياق هذا التأويل.

<<  <  ج: ص:  >  >>