للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك، ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل، أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ"بل" في قول المنشد شعرًا:

بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا

وأنه لا معنى له، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى (١)

أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ "بل" - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ "ألم" و"ألر" و"ألمص"، بمعنى ابتدائها ذلك بـ "بل". وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن، فقال تعالى ذكره: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين (٢) ، في قول قائل هذه المقالة، ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة، وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به


(١) انظر ما مضى: ٢١٠.
(٢) في المطبوعة: "ما لا يعقله ولا يفقهه".

<<  <  ج: ص:  >  >>