بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ (١) = فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه، إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة:(وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون (وما يخادعون) لأن لفظ"المخادع" غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة، ولفظ"خادع" موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه، فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ:(وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) .
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ:(وَمَا يَخْدَعُونَ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: (وما يخادعون) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) }
يعني بقوله جل ثناؤه"وما يَشعرون"، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به -إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
(١) سياق هذه العبارة: "ليبلغ المخاتل المخادع. . . أقصى غاية"، وسياق الذي يليها من صدر الجملة: "فأما والمخادع عارف. . . فإنما هو خادع نفسه. . . "، وما بينهما فصل طويل.