للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.

وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله"اشْتَرَوْا":"استحبُّوا"، فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى، فقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [سورة فصلت: ١٧] ، صرفوا قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل"الباء" مكان"على"، و"على" مكان"الباء"، كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [سورة آل عمران: ٧٥] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه"اشْتَرَوا" إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.

ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة (١)

فَقَدْ أُخْرِجُ الكَاعِبَ الْمُسْتَرَا ... ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعَ الْقِمَارَ (٢)

يعني بالمستراة: المختارة.

وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار:

يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا ... جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ (٣) .

يعني بالشَّراة: المختارة.


(١) في المطبوعة"الاشتراء" بالشين المعجمة، وهو خطأ، صوابه بالسين المهملة.
(٢) ديوانه: ٣٥، وطبقات فحول الشعراء: ٣٦، واللسان (سرا) . وفي المطبوعة: "المشتراة" في الموضعين، والصواب ما أثبتناه. والكاعب: التي كعب ثديها، أي نهد، يعني أنها غريرة منعمة محجوبة. وخدر الجارية: سترها الذي يمد لها لتلزمه بعد البلوغ، وأشاع المال بين القوم: فرقه فيهم. وأراد بالقمار: لعب الميسر، وعنى نصيب الفائز في الميسر من لحم الجزور، يفرقه في الناس من كرمه.
(٣) ديوانه: ٦٢. والضمير في قوله"يذب" لفحل الإبل. ويذب: يدفع ويطرد. والقصايا، جمع قصية: وهي من الإبل رذالتها، ضعفت فتخلفت. وجماهير، جمع جمهور: وهو رملة مشرفة على ما حولها، تراكم رملها وتعقد. والمدجنات، من قولهم"سحابة داجنة ومدجنة"، وهي: المطبقة الكثيفة المطر. والهواضب: التي دام مطرها وعظم قطرها. شبه الإبل في جلالة خلقها وضخامتها بجماهير الرمل المتلبدة في رأي العين من بعيد

<<  <  ج: ص:  >  >>