للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أنه غيرُ جائز أن يُتوهّم على ذي فطرة صحيحة، مقرّ بكتاب الله، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله -أن يعتقد أنّ بعضَ القرآن فارسي لا عربيّ، وبعضه نبطي لا عربيّ، وبعضه روميّ لا عربيّ، وبعضه حبشي لا عربي (١) ، بعد ما أخبر الله تعالى ذكرُه عنه أنه جعله قرآنًا عربيًّا. لأن ذلك إنْ كان كذلك، فليس قولُ القائل: القرآن حبشيٌّ أو فارسيٌّ، ولا نسبةُ من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضُه بلسانه دون العرب- بأولى بالتطويل من قول القائل (٢) : هو عربي. ولا قولُ القائل: هو عربيٌّ بأولى بالصّحة والصواب من


(١) في المطبوع والمخطوط "وبعضه عربي لا فارسي" مكان "وبعضه رومي لا عربي"، وهو فاسد المعنى فآثرت أن أثبت ما يقتضيه سياق الكلام. وقد ذكر الروم آنفًا في ص ١٦.
(٢) في المطبوعة: "بالتطول" وأراد الطبري بقوله "التطويل" نسبة القول إلى التزيد والسعة في الكلام، حتى يستغرق الوصف بإحدى الصفات سائر الصفات الأخرى. وكلام الطبري يحتاج إلى فضل بيان - من أول قوله: "وذلك أنه غير جائز أن يتوهم.." إلى قوله: "ولا جائز نسبته إلى كلام العرب". فأقول:
أراد الطبري أن يقول: إنه لا يستقيم في العقل أن يكون الرجل مؤمنًا بكتاب الله، عارفًا بمعانيه وحدوده، مقرًا بأن الخبر قد جاء من ربه أنه جعل القرآن "قرآنا عربيا"، ولم يجعله أعجميا بقوله "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي"- ثم يعتقد مع ذلك: أن بعض القرآن فارسي لا عربي، وبعضه نبطي لا عربي، وبعضه رومي لا عربي، وبعضه حبشي لا عربي. فإنه إن فعل، فقد نفى عن بعض القرآن أنه عربي، والله يصف القرآن كله بأنه عربي. وأثبت لبعض القرآن أنه أعجمي، والله تعالى ينفي عن جميعه أنه أعجمي.
وخبر الله تعالى عن كتابه أنه جعله "قرآنا عربيا" صفة شاملة لا يجوز لأحد أن يخصص شمولها على بعض القرآن دون بعض. ولو جاز لأحد أن يخصص شمولها من عند نفسه فيقول: "بعض القرآن حبشي لا عربي، أو فارسي لا عربي.."، لجاز أيضًا لقائل أن يقول من عند نفسه: "القرآن حبشي أو فارسي أو رومي، أو أعجمي".
وحجة الطبري في ذلك: أن الذي يخصص شمول الصفة من عند نفسه على بعض القرآن بأنه عربي، ويقول إن بعضه الآخر يوصف بأنه حبشي أو فارسي أو رومي- يدعى أن وصف القرآن بأنه عربي، محمول على تغليب إحدى الصفات على سائر الصفات الأخرى. ولو جاز ذلك، لجاز لقائل أن يقول: "القرآن حبشي أو فارسي أو رومي"، لأنه فعل مثله، فغلب إحدى الصفات على الصفات الأخرى.
وإذا اقتصر المقتصر على صفة بعضه فقال: "القرآن حبشي أو فارسي"، لم يكن أولى بأن ينسب إلى التوسع في الكلام والتزيد في الصفة، من القائل: "القرآن عربي"، لأنه اقتصر أيضًا على صفة بعضه، فتوسع في الكلام وتزيد في الصفة.
وإذا كان ما في القرآن من فارسي ورومي ونبطي وحبشي، نظير ما فيه من عربي، فليس قول القائل: "القرآن عربي"، أولى بالصحة والصواب من قول القائل: "القرآن فارسي أو حبشي"، فكلاهما أطلق صفة أحد النظيرين على الآخر. وإذا جاز لأحدهما أن يفعل ذلك مصيبًا في قوله، جاز للآخر مثله مصيبًا في قوله.
وهذا فساد من القول وتناقض، ومخالف لقوله تعالى: "ولو جعلناه قرآنًا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي"، فهذه شهادة من الله تعالى بأنه لم يجعله أعجميًا، كشهادته سبحانه بأنه جعله "قرآنًا عربيا". وقد اقتضى مذهب هذا القائل أن يقال: "القرآن حبشي أو فارسي". كما يقال: "القرآن عربي" سواء. فناقض هذا قول الله سبحانه. وهذا قول "غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة، مقر بكتاب الله، ممن قرأ القرآن، وعرف حدود الله" كما قال الطبري رحمه الله.
وإذن فقول القائل من السلف: "في القرآن من كل لسان"، ليس يعني به أن فيه ما ليس بعربي مما لا يجوز أن ينسب إلى لسان العرب- بل معناه أن فيه ألفاظًا استعملتها العرب، وهذه الألفاظ أنفسها مما استعملته الفرس أو الروم أو الحبش، على جهة اتفاق اللغات على استعمال لفظ واحد بمعنى واحد، لا على جهة انفراد الكلمة من القرآن بأنها فارسية غير عربية، أو رومية غير عربية. فإن السلف أعرف بكتاب الله وبمعانيه وبحدوده، لا يدخلون الفساد في أقوالهم، مناقضين شهادة الله لكتابه بأنه عربي غير أعجمي.

<<  <  ج: ص:  >  >>