ذلك فرقَ ما بين"الذي" في الآيتين وفي البيت. لأن"الذي" في قوله:"والذي جاء بالصدق"، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله:(أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، وكذلك "الذي" في البيت، وهو قوله "دماؤهم". وليست هذه الدلالة في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا". فذلك فَرْق ما بين"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا"، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى"الذي" في قوله:"كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا" بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:
أحدها- ما:
٣٨٦- حدثنا به محمد بن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي يُبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:
٣٨٧- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) يقول: في عذاب.