للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟

وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة، ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (١) . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (٢) ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (٣) ؟

ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [سورة الإسراء: ٨٨] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى:"وإنْ كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين". يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة


(١) قوله"من المؤمنين" متعلق بقوله آنفًا "أن لهم شهداء. . "، يعني شهداء من المؤمنين. ثم فصل، لأن قوله"على حقيقة ما كانوا يأتون به. . " متعلق أيضًا، بشهداء.
(٢) في المطبوعة: "لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم". وتترع إلى الشيء: تسرع إليه، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي. وما في المخطوطة"تتارعوا" صحيح في اشتقاق العربية، وإن لم تذكره المعاجم، وهو مثل تسرع وتسارع، سواء.
(٣) في المطبوعة"فمن أي الفرق. . "، وكلام الطبري استفهام واستنكار. لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق، فكان محالا أن يكون معنى"الشهداء" هنا: الذين يشهدون لهم، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى. وصار حتما أن يكون معنى"الشهداء": الذين يظاهرونهم ويعاونونهم، كما جاء في الآية التالية.

<<  <  ج: ص:  >  >>