للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله:"قالوا هذا الذي رزقنا من قبل"، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض (١) . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله:"وأتوا به متشابهًا"، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم:"هذا الذي رُزقنا من قبل" بقوله:"وأتوا به متشابهًا".

ويُسأل من أنكر ذلك (٢) ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه، فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟

فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله، لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.

وإن قال: ذلك جائز، بل هو كذلك.

قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه (٣) ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.

وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:

٥٣٧- حدثني به ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة، وعلّمه صَنعةَ كل شيء، فثمارُكم هذه من ثمار الجنة، غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ (٤) .


(١) انظر ما مضى ص ٣٨٧ وما بعدها.
(٢) في المطبوعة: "وسأل من أنكر. . "، وهو خطأ بين.
(٣) في المطبوعة: "نظائر ألوان".
(٤) الحديث ٥٣٧- هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس. والأشعري: هو أبو موسى، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة. عوف: هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة. قسامة - بفتح القاف وتخفيف السين المهملة: هو ابن زهير المازني التميمي البصري، وهو ثقة تابعي قديم، بل ذكره بعضهم في الصحابة فأخطأ. وله ترجمة في الإصابة ٥: ٢٧٦ وابن سعد ٧/١/١١٠، وقال: "كان ثقة إن شاء الله، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق"، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٤٧، وروى توثيقه عن ابن معين.
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ ١: ٨٠، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عوف، بهذا الإسناد. وذكره ابن القيم في حادي الأرواح ١: ٢٧٣ (ص ١٢٥ من الطبعة الثانية، طبعة محمود ربيع سنة ١٣٥٧) من رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن عقبة بن مكرم العمى الحافظ، عن ربعى بن إبراهيم بن علية عن عوف، بهذا الإسناد، مرفوعًا صراحة: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٨: ١٩٧ - ١٩٨"عن أبي موسى رفعه"، وقال: "رواه البزار، والطبراني، ورجاله ثقات". وذكره ابن القيم في حادي الأرواح قبل ذلك (ص ٣٠ - ٣١) ، من رواية"هوذة بن خليفة عن عوف" بهذا الإسناد، موقوفًا لفظًا. ورواية هوذة بن خليفة: رواها الحاكم في المستدرك ٢: ٥٤٣، ولكن إسنادها عندي أنه مغلوط، والظاهر أنه غلط من الناسخين. لأن الذي فيه: "هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم" إلخ. ثم قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! ولا يمكن -فيما أعرف وأعتقد- أن يصحح الحاكم هذا الإسناد، ثم يوافقه الذهبي، إن كان على هذا الوجه، لأن أبا بكر بن أبي موسى الأشعري تابعي ثقة، فلو كان الإسناد هكذا كان الحديث مرسلا لا حجة فيه، سواء أرفعه أم قاله من قبل نفسه، فالظاهر أن الناسخين القدماء للمستدرك أخطئوا في زيادة"أبي بكر بن"، وأن صوابه: "عن أبي موسى الأشعري"، كما تبين من نقل ابن القيم رواية هوذة، وكما تبين من الروايات الأخر التي سقناها. والحمد لله على التوفيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>