للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير مبرّح. (١)

* * *

قال أبو جعفر: فكلّ هؤلاء الذين ذكرنا قولهم: لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب. ولم يوجبوا هجرًا = إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب، (٢) مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بضربهن إذا عصين أزواجهن في المعروف، من غير أمر منه أزواجهن بهجرهن = (٣) لما وصفنا من العلة.

قال أبو جعفر: فإن ظنّ ظانٌّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عكرمة، ليس كما قلنا، وصحّ أن تركَ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجل بهجر زوجته إذا عصته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر، لو كان دليلا على صحة ما قلنا من أنّ معنى"الهجر" هو ما بيناه = لوجب أن يكون لا معنى لأمر الله زوجَها أن يَعِظها إذا هي نشزت، إذ كان لا ذِكر للعظة في خبر عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم =

= (٤) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا عصينكم في المعروف"، دلالة بينة أنه لم يٌبح للرجل ضرب زوجته، إلا بعد عظتها من نشوزها. وذلك أنه لا تكون لهُ عاصية، إلا وقد تقدّم منه لها أمرٌ أو عِظَة بالمعروف على ما أمرَ الله به. (٥)

* * *


(١) الأثر: ٩٣٧٧ - الخبر الذي رواه عكرمة، واحتج به الطبري بعد، خبر مرسل. خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ١٥٥، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(٢) يعني بقوله: "إذ كان هيئة من الهيئات ... "، أن المرأة المضروبة لا تضرب إلا لأنها هجرت فراش زوجها، فالهجر حالة من حالاتها التي تكون عليها حين تضرب.
(٣) السياق: "ولم يوجبوا هجرًا ... لما وصفنا من العلة"، وفصل بينهما بالسبب الذي من أجله لم يوجبوا الهجر.
(٤) قوله: "فإن الأمر في ذلك ... " جواب قوله في أول الفقرة السالفة: "فإن ظن ظان"، وفصلت هذه الثانية فقرة مستقلة، لأنها كالجواب، ولئلا تختلط معاني الكلام.
(٥) تأويل الطبري في هذا الموضع لمعنى"الهجر"، وأنه الشد بالهجار، والاستثياق منهن رباطًا في منازلهن وبيوتهن التي يضطجعن فيها ويضاجعن فيها أزواجهن = تأويل مستغرب جدًا، شذ به عن كل تأويل تأوله المتقدمون. وقد استدرك عليه العلماء بعده، فمن أجود من قال في ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن ١: ١٧٥ قال: "يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة!! وإني لأعجبكم من ذلك: أن الذي جرأه على هذا التأويل، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه، وهو حديث غريب، رواه ابن وهب عن مالك: أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام ... " ثم ذكر قصة ضرب الزبير أسماء وضرتها، وأنه عقد شعر واحدة بالأخرى، وارتفاع أسماء إلى أبي بكر، ونصيحة أبي بكر لها أن تصبر، لأن الزبير رجل صالح، وعسى أن يكون زوجها في الجنة = ثم قال ابن العربي: "فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ، مع فعل الزبير، فأقدم على هذا التفسير لذلك. وعجبًا له، مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب، كيف بعد عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر"!!
واستخراج أبي بكر ضمير الطبري، إذ ذكر الخبر الذي جرأه على هذا التفسير، ليس يعجبني، ولو كان الطبري أراده لذكره كعادته. ولكني أظن أبا جعفر قد تورط في هذا التأويل، للعلل التي قدم ذكرها بعد كلامه في تفسير"الهجر"، وأنه لو كان الكلام"فاهجروهن في المضاجع"، ولم يقل سبحانه قبله"فعظوهن"، لما احتاج أبو جعفر إلى هذا التأويل. وإذن فالذي دعاه إلى هذا التأويل هو تتابع الكلامين"فعظوهن" و"اهجروهن في المضاجع"، ثم إنه أيضًا لم يجد مساغًا للجمع بين معنى"النشوز"، ومعنى"الهجر"، كما قلت في ص: ٣٠٨ تعليق: ٤. ولاستيفاء القول في ذلك مكان غير هذا المكان.

<<  <  ج: ص:  >  >>