وقبل هذه الأبيات، أبيات في صفة استخراج سقط النار من الزند بالقدح، فلما اقتدحها كفنها كما ذكر في سائر الشعر. فقوله: "فلما بدت"، أي بدا سقط النار من الزند الأعلى عند القدح، "كفنها" ضمنها خرقة وسخة، لم تبلغ ذراعًا ولا شبرًا، وهي التي سماها"طلساء"، لسوادها من وسخها. وكانت"طفلة" لأنها سقطت من أمها لوقتها فتلقاها في الخرقة التي جعلها لها كفنًا. وإنما جعلها"كفنًا": لها، لأن السقط يسقط من الزند يزهر ويضيء حيًا، فإذا وقع في قلب القطنة، لم تر له ضوءًا، فكأنه السقط قد مات. ولكنه عاد يتابع السقط حتى يحييه مرة أخرى فقال لصاحبه: "ارفعها إليك"، أي خذها بيدك، وارفعها إلى فمك، ثم"أحيها بروحك"، أي انفخ لها نفخًا يسيرًا، "واقتته لها قيتة قدرًا"، يأمره بالرفق والنفح القليل شيئًا فشيئًا، كأنه جعل النفخ قوتًا لهذا الوليد، يقدر له تقديرًا، شيئًا بعد شيء حتى يكتمل. ثم لما فرغ من ذلك، ونمت النار بعض النمو، قال له: "ظاهر لها من يابس الشخت"، أي اجعل دقيق الحطب اليابس بعضه على بعض، وأطعم هذا الوليد= و"الشخت": الدقيق من كل شيء، = وذلك لتكون النار فيه أسرع. ثم يقول له: استقبل بها ريح الصبا ليكون ذلك لها نماء، "واجعل يديك لها سترًا"، أي: ليسترها من النواحي الأخرى حتى تضربها الصبا، فلا تموت مرة أخرى. ثم عاد فوصف نموها يقول: "ولما تنمت" وارتفعت، "تأكل الرم"، تأكل ما يبس من أعواد الشجر، لم تدع بعد ذلك يابسًا ولا أخضر مما ظلوا يجمعونه لها، وذلك حين استوت وبلغت أشدها. فلما رأوا النار تجري بعد ذلك في"الجزل" - وهو ما غلظ من الحطب ويبس - كأن ضوءها سنا البرق، رفعوا أيديهم شكرًا للذي خلقهم وخلق النار. وهذا شعر جيد مستقيم على النهج. ومما يقيد هنا، ما رواه السيوطي في المزهر، عن أبي عبيد في الغريب المصنف أن الأصمعي قال: أخبرني عيسى بن عمر، قال: أنشدني ذو الرمة: وَظَاهِرْ لَهَا من يَابِس الشَّخْتِ ثم أنشد بعد هذا: مِنْ بَائِسِ الشَّخْتِ قال أبو عبيد: فقلت له: إنك أنشدتني"من يابس الشخت"؟ فقال: اليبس من البؤس. قال السيوطي: وذلك إسناد متصل صحيح، فإن أبا عبيد سمعه من الأصمعي. وكان في المطبوعة: "جرت للجزل" و"لخالقها"، وأثبت رواية الديوان.